مهدي‮ سلمان ‬في‮ ‬جمرته الأولى‮.. ‬وطن على أرخبيل مسرحي





كتب - سيد جعفر الديري:
لم أكد امتلئ احتراماً‮ ‬لوقفته على خشبة المسرح‮. ‬حتى امتلأت عشقاً‮ ‬بنتاجه الشعري‮ ‬حين أهداني‮ ‬نسخة من ديوانه الأول‮ ''‬ها هنا جمرة،‮ ‬وطن،‮ ‬أرخبيل‮''. ‬الشاعر والمسرحي‮ ‬الشاب مهدي‮ ‬سلمان‮. ‬الذي‮ ‬عرفته على خشبة المسرح ممثلاً‮ ‬أصيلاً‮ ‬يمتلئ عمقاً‮ ‬وثقافة على صغر سنه النسبي‮. ‬حين لاذ الآخرون إلى المسرح دون شعور حقيقي‮ ‬بأن الممثل ليس حركات فقط‮. ‬وأن الثقافة تظهر في‮ ‬أداء الممثل،‮ ‬في‮ ‬التفاتاته ونظرة عينيه وطريقة نطقه للحروف‮. ‬يفرد‮ ‬مهدي‮ ‬في‮ ‬ديوانه مساحة رحبة للمسرح‮. ‬وكأن ديوانه خشبة مسرحية‮ ‬يفضي‮ ‬إليها بكل ما‮ ‬يشغل ذهنه من أفكار‮.‬جذبني‮ ‬مهدي‮ ‬مرة ثانية إلى شعره حينما قرأت على الغلاف الخارجي‮ ‬من ديوانه الأول مقطعاً‮ ‬يقول فيه‮: ‬‮''‬قال‮: ‬نجوت منهم‮/ ‬قلت‮: ‬ممن؟‮/ ‬قال‮: ‬منهم‮/ ‬قلت‮: ‬لكني‮ ‬وحيد في‮ ‬المكان‮/ ‬فقال‮: ‬بئساً‮ ‬كيف لم تفهم بأنك والمكان ضحيتان‮/ ‬فقلت‮: ‬لكني‮ ‬نجوت‮/ ‬فقال‮: ‬أفرغت الممالك والقصيدة أرغمتك على البكاء أمام نعشك/قالت‮: (‬الشعراء لا‮ ‬يرثون‮/ ‬حكّت أذنها بجناحها ومضت فيها‮''. ‬فتساءلت‮: ‬هل جاء اختيار مهدي‮ ‬لهذا المقطع عن تعمد أم عفو الخاطر؟ أن‮ ‬يظهر هذا المقطع على الغلاف الخارجي‮ ‬فذلك شيء جميل لكن أن‮ ‬يكون عبارة عن قيل وقال،‮ ‬فتلك إشارة‮ ‬يجب الالتفات اليها‮. ‬فهل أراد مهدي‮ ‬من هذا المقطع أن‮ ‬يقول انتبهوا أيها السادة فها هنا شاعر في‮ ‬داخله المسرح؟‮! ‬ربما،‮ ‬وإن كان أمراً‮ ‬متوقعاً‮ ‬من شاعر كمهدي‮ ‬تلمس الثقافة أول ما تلمسها من المسرح،‮ ‬أن‮ ‬يظل مخلصاً‮ ‬للمسرح‮.

اقتراب من النفس

إن مهدي‮ ‬يحاول أن‮ ‬يقترب من نفسه‮. ‬يستكشف ما تخبئه في‮ ‬زواياها‮. ‬والشعر‮ -‬هذا الرائع‮ ‬‭-‬‮ ‬يجعله قريباً‮ ‬منها‮. ‬لذلك كان بحاجة إلى أن‮ ‬يتخيل نفسه إزاء نفس أخرى تردد ما تقول وما‮ ‬يتفجر في‮ ‬مشاعره‮. ‬وليس أجمل لدى مهدي‮ ‬من المسرح قاعدة‮ ‬يرتكز عليها في‮ ‬هذا الشعور‮.‬مهدي‮ ‬أيضاً‮ ‬يحتاج الى أن‮ ‬يستكشف عوالم أخرى‮. ‬فهو‮ ‬يدرك أن ليس كل ما‮ ‬يقال على الورق صادق‮. ‬وهو‮ ‬يتذكر كلمة الأقدمين الذين كانوا‮ ‬يقولون إن أعذب الشعر أكذبه‮. ‬إذاً‮ ‬عندما‮ ‬يقول الشاعر شعراً‮ ‬فليس بالضرورة أن‮ ‬يكون سعيداً‮ ‬لأنه‮ ‬يعرف أنه‮ ‬يكذب ويجافي‮ ‬الواقع‮. ‬أما المسرح الذي‮ ‬يقف الممثل فوق خشبته إزاء الناس وجهاً‮ ‬لوجه ويلقي‮ ‬كلماته فخشبته لا تعرف الكذب‮. ‬وحتى لو كذب مهدي‮ ‬فإن الناس تعرف أنه‮ ‬يكذب ومع ذلك تحبه‮.ولكني‮ ‬أتساءل هل كان اختيار مهدي‮ ‬للمسرح بمثابة رجوع إلى الناس‮. ‬رجوع إلى الالتصاق بهم في‮ ‬مقابل أشعار ربما لا‮ ‬يعيها الكثيرون وإنما هي‮ ‬حديث نخبة؟ فعلى رغم اجتهاد مهدي‮ ‬في‮ ‬المسرح وعشقه اللا محدود إلى التجريد‮ ‬‭-‬‮ ‬إن صحت التسمية‮ ‬‭-‬‮ ‬وافتتانه بالتعبير بأساليب حديثة فإنه لايزال مخلصاً‮ ‬للناس‮. ‬وهو لا‮ ‬يتردد في‮ ‬قبول أي‮ ‬دور‮ ‬يسند إليه حتى لو كان بسيطاً‮ ‬وواضحاً‮. ‬وهو الأمر الذي‮ ‬تركا أثراً‮ ‬طيباً‮ ‬وعميقاً‮ ‬في‮ ‬تجربته الشعرية‮.

للمارين عليه

فلنتأمل قليلاً‮ ‬ديوانه الأول‮. ‬عند دخولنا إلى ديوان أو‮ ''‬إيوان‮'' ‬مهدي‮ ‬نجد عبارة مختصرة تقول‮: ''‬للمارين علي‮/ ‬وأنا معلق على صليب العتمة‮/ ‬خذوا زهرة واتركوا لي‮ ‬الصليب‮''. ‬فهو إذاً‮ ‬يشبه نفسه بالسيد المسيح‮. ‬كما فعل كثير من الشعراء في‮ ‬الشرق والغرب‮. ‬ولكن الجميل في‮ ‬هذا المدخل أن مهدي‮ ‬يرسمه صورة حية وكأنه على خشبة المسرح‮. ‬تأمل في‮ ‬الكلمات‮: ''‬مارين علي،‮ ‬معلق،‮ ‬العتمة‮''‬،‮ ‬كلمات ثلاث لكنها كان كلمات حقيقية لم‮ ‬يرحل بها الشعر بعيداً‮ ‬وإنما اختزلها على المسرح‮. ‬ثم‮ ‬ينثني‮ ‬بكلمتين في‮ ‬أسفل الصفحة التالية‮: ''‬يسار الصدر‮'' ‬وهو معنى‮ ‬يوحي‮ ‬بأنه سيتحدث عن ما‮ ‬يشغل قلبه‮. ‬ولكن مهدي‮ ‬لم‮ ‬يفلح في‮ ‬خداعنا فالمرأة التي‮ ‬لا تضع رأسها إلا على‮ ‬يسار الصدر شغلت هذا الفصل جميعه‮. ‬ومهما حاول أن‮ ‬يخدعنا بأنه‮ ‬يتكلم عن شيء آخر فلن‮ ‬يستطيع ذلك‮. ‬فلا‮ ‬يوجد نص واحد في‮ ''‬يسار الصدر‮'' ‬يخلو من رائحة امرأة‮. ‬استمع إليه وهو‮ ‬يقول في‮ ‬نص ارتباك‮: ''‬وحدك ازددت اقترابا من‮ ‬يدي‮/ ‬وأنا كبرت دقيقتين‮/ ‬وذلك الكرسي‮ ‬أتقن لبس جوربه‮/ ‬وتينتنا استوت أنثى‮/ ‬تعلمت الحياء‮/ ‬تعلمت ثقب القلوب‮''. ‬لاحظ أنه‮ ‬يقول لها إنك وحدك ازددت اقترابا مني‮. ‬إذا هو في‮ ‬حوار معها‮. ‬ويقول في‮ ‬نص‮ ''‬تأخذ زينتها‮'': ''‬وقفت قدّام مرآة بلون الماء‮/ ‬فكت جسداً‮ ‬عن جسد‮/ ‬أصغت قليلا‮/ ‬لانكسار القلب في‮ ‬جفنين‮/ ‬للنأمة في‮ ‬النهد‮''. ‬وكأن هذا الكلام مقدمة لحوار مسرحي‮. ‬فكلها خيالات تنسجها أنثى‮. ‬ولكنها أيضاً‮ ‬على خشبة مسرحية‮.

‬للعالم حواليه

وهكذا حتى تنتهي‮ ‬إلى فصل ثان وعنوان صغير آخر في‮ ‬أسفل الصفحة وهو‮ ''‬جهة الأسئلة‮''. ‬فبعد أن‮ ‬يفرغ‮ ‬مهدي‮ ‬من الحديث عن أنثاه‮ ‬يتحول إلى العالم حواليه‮. ‬إنه‮ ‬يعيش أوجاعه ويطرح تساؤلات شتى عن الحياة والموت والحكمة وأشياء أخرى تلتصق بكل لحظة من لحظات عمره‮. ‬يقول مهدي‮ ‬من نص‮ ''‬إذا هو‮ ‬يتلو وحسب‮'': ''‬هلا مدن تدخل في‮ ‬الجيب‮/ ‬هلا شاعر‮ ‬يشبهني‮ ‬يأكلني‮ ‬من كتفي‮/ ‬لم تبق مني‮ ‬لغة للوطء‮/ ‬لم تخترق الصحراء وجهي‮ ‬كلّه‮/ ‬هذا الفتات الرخو في‮ ‬النصف‮/ ‬سيغدو شاعرا‮ ‬يكتب بالفيروز‮''. ‬ولا أعلم لماذا تذكرني‮ ‬هذه الأبيات بالملك لير وعباراته التي‮ ‬تقطر أسى في‮ ‬مسرحية شكسبير حينما خانته ابنتاه وتركتاه في‮ ‬العراء‮. ‬صراخ مهدي‮ ‬هذا‮ ‬يشبه صراخ ذلك المسكين على خشبة المسرح‮.

لشهوة المسرح

وفي‮ ‬يمين اللعنة وهي‮ ‬الوقفة الثالثة والأخيرة في‮ ‬هذا الديوان‮. ‬تستعر شهوة هذا الشاعر بالمسرح‮. ‬فإن كان في‮ ‬القسمين السابقين استطاع أن‮ ‬يخرج منه فهو هنا‮ ‬يعود اليه وقد أذعن لمشيئته‮. ‬ربما لأنه وجده الأقدر على استنطاق ذاته التي‮ ‬برزت هنا دون مؤثرات‮. ‬يقول مهدي‮ ‬في‮ ‬نص‮ ''‬سيأتي‮ ‬من الخلف ظلي‮'': ''‬أو أنت آخرهم؟‮/ ‬وتترك ما مضى مني‮ ‬يجيء لآخري‮/ ‬أو أنت؟ لم‮ ‬يجدوا سواك؟ دع الكلام فلا قيامة بين فنجانين قل لي‮: ‬هل تركت‮ ‬غواية الشعراء لم‮ ‬يجدوا سواك؟‮''. ‬ثمة صراخ وعويل لم‮ ‬يستطع الشعر أن‮ ‬يعبر عنهما‮. ‬فلاذ مهدي‮ ‬بالمسرح‮. ‬إنه إذ لم‮ ‬يجد أحداً‮ ‬يحاوره تخيل نفسه فقال لها‮: ‬أو أنت آخرهم‮. ‬

مخلوق مسرحي

إن مهدي‮ ‬في‮ ‬مجموعته الأولى حاول أن‮ ‬يتخلص من تأثير المسرح،‮ ‬بيد أن محاولاته باءت بالفشل‮. ‬فهو مخلوق كي‮ ‬يكون مسرحياً‮ ‬وما الشعر إلا كلمات‮ ‬يلقيها على خشبة المسرح‮. ‬وهذان طيفان قد خلقا من نفس واحدة‮. ‬وذلك لا‮ ‬يعد نقصاً‮ ‬في‮ ‬التجربة‮. ‬بل إن هناك من الشعراء من تركوا الشعر واتجهوا إلى المسرح‮. ‬واعتقد بأن هذا ما‮ ‬يميز تجربة مهدي‮ ‬الشعرية التي‮ ‬ألقى عليها المسرح ظلاله فجعلها مشهداً‮ ‬مسرحياً‮ ‬ينبض بالشعر‮.

الوطن البحرينية
27-8-2007

ليست هناك تعليقات: