كتب- مدحت علام:
تطل علينا المجموعة الشعرية للشاعر مهدي سليمان «ها هنا جمرة، وطن، أرخبيل» في توهج حسي، تبدو فيه المشاعر مثقلة بتداعيات إنسانية عدة، وعلى هذا الأساس فقد توجهت الرؤية صوب حلم متواتر، وخجول في بعض الأحيان، وغامض في أحايين أخرى.
ومن خلال ما تتمتع به صياغة الشاعر من تلاق ضمني بين الشكلي والضمني، فإن المجاهرة بالاحساس بات مزداناً بلغة ذات إيقاع متزن، ومتناسق مع النصوص الشعرية.
وقسم الشاعر ديوانه الذي يقع في 160 صفحة من القطع المتوسط الى فقرات ثلاث هي «يسار الصدر» و«جهة الأسئلة» و«يمين اللعنة».
ليقول في قصيدة «ارتباك» والتي جاءت في فقرة «يسار الصدر»:
وحدك ازددت اقتراباً من يدي
وأنا كبرت دقيقتين
وذلك الكرسي أتقن لبس جوربه
وتينتنا استوت أنثى
تعلمت الحياء
تعلمت ثقب القلوب
بنظرة خجلي.
إن الشاعر لا يتوانى في رصد الخيال من أجل استلهام الصورة تلك التي تجسدها في استشراف حسي يتوافق تماماً مع رؤيته الخاصة، ولكي يقول في قصيدة «أمرن بالمكر»:
أيها القلب
يا حارس العدم المطمئن
الخرافات بيتك
ثق بي ولكن توجس
وكن حذراً
حين تطلع مثلي على السر
لا تعترف بالحقيقة كاملة
طرفاً من دم القول خذ.
إن المتأمل للغة الشاعر مهدي سلمان سيجد أنها تقترب كثيرا من الواقع في استشراف خيالي يعمق الفكرة، ويجعلها في متناول الذهن الباحث عن الدهشة والاستزادة من المعاني التي تعبر آفاق حسية جديدة ليقول في قصيدة أخرى عنوانها «ريبتي القلقة»
سيبصرني البحر وحدي
ويسألني عن يديه...
فماذا أقول له؟
استلقتا في هوادج ترحل بالتعب
انتهتا لهجاء القصيدة
فاغتالتا شاعراً
ضلتا شاطئا يتعثر في مائه الرخو
فابتلتا مرة بالكلام
وأخرى بإيقاعه.
وسنجد ان الشاعر في الفقرة الثانية من ديوانه «جهة الاسئلة» انه قد تغلب على غموضه بحثا عن اسئلة من الممكن ان تتحين الاجابة عن ما يؤرقه، وهذه الاسئلة لم تأت في اسلوب مباشر أو تقريري بقدر ما جاءت مزدانة باللغة الضمنية، تلك التي تتواثب فيها الأشياء في اختلاف واتفاق ليقول في قصيدة «هل الماء أنجز وعده؟».
مهلاً
قد أقول حكايتي الأخرى
وقد أضفي عليها بعض الأخطاء
مكابرة،
جديلة طفلة تشتمها شمس
شيوخاً يقرأون النار بالمقلوب
ثم يتمتمون لبعضهم شيئا من الأذكار
نحلاً طاعناً في رغبة المنح.
إن ترفق الرؤى عند الشاعر تبدو كثيرة التحرك في اتجاهات عدة. وفي مجالات يتبدى فيها الفعل الحسي للانسان حاضراً وبقوة، وبالتالي فان احتياج الشاعر للاجابة عن أسئلة لم يكن وارداً في ظل استشراف الواقع من منظوره التجريدي غير المرئي الميتافيزيقي ليقول في قصيدة عنوانها «قتيل آخر»:
لم نشأ إيقاظه
من عتمة «الداعوس»
لم ندفنه فينا بالسؤال البكر
لم نتركه ينهي ماءه المرقوم
بل درنا عليه
كيف انقذناه من موت سيؤذيه
أما فقرة «يمين اللعنة» فإن ثمة تداعيات يمكن رصدها، من خلال ما تتدفق فيه الرؤى من تواصل استشرافي لحقيقة الوجود، تلك الحقيقة التي يبحث الشاعر فيها عن انساق شعرية متنوعة ليقول في قصيدة «على ربوة... على يمين القصيدة»:
يا سيد الأبواب
أفرغت الممالك
وانتظرت صفير بيت من قصيدتك الحزينة
يسقط الضجر البهي عليك
تسقط من يديك مخالب الذئب الجريح
ولا تريح فتستريح!
ويظهر القلق جلياً في قصائد الفقرة من خلال ما يبثه الشاعر من تجربة تبعث في النفس التفكير... هذا التفكير الذي ربما يدفعنا إلى اعادة النظر في كنهة الأشياء ليقول في قصيدة «مرضى الآلات»:
تقوس الماء في حضن الفتاة
ولم يصغ المغني
لمعناها وما ارتعش الصوت
الرخيم
ولا الألحان شجرت الآتي
بقافلة العزف السريع
ولا اللهاث أوصلها قيثارة الجسد
المبتل بالجسد.
واختتم الشاعر ديوانه بقصيدة «سيأتي من خلف ظلي» وذلك من خلال تواصل ذهني بين الواقعي والخيالي، هذا التواصل الذي يتبدى فيه الانسان أكثر فهما للواقع الذي يحيط به ليقول:
دع الكلام الآن
ما جدوى الكلام
يئست منه ومنك
لم يجدوا سواك؟
إليك... هاك يدي
أنا مستسلم كجريمة
ويدي على رأسي
وأنت تعد أضلاعي
وتكتب فوقها «مسودة» التقرير
تمضيها
ونرحل في الفراغ
هكذا استطاع الشاعر مهدي سليمان أن يبحر بنا عبر لغته العميقة في مظاهر حسية، كان فيها الانسان أكثر حركة في اتجاه الخيال، الذي من خلاله سيتمكن من فهم الواقع وسبر أغواره، والتأكيد على جوهره ومضامينه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق