كتب_سَعْد اليَاسِري*:
حين أقرأ للشاعر البحريني مهدي سلمان؛ أتذكّر نصًّا للشاعر المصري أحمد محجوب.. يقول فيه:
ولدٌ ؛
وله اسم قصير لا يثير الريبة في عيون الناس.
في حين أنني أستبدل كلمة «شاعر» بـ «ولد» . شاعرٌ يبكي.. أو كما يقول هو في نصّه الأخطر (على ربوةٍ .. عن يمين القصيدة):
وقلتُ : يا ربّاه ؛
هذا شاعرٌ يبكي أمامك .
مهدي سلمان؛ الشاعر البحريني الذي أصدر – قبل فترة - ديوانه الأوّل (ها هنا جمرةٌ.. وطنٌ.. أرخبيلٌ) الواقع في مئة وستين صفحة من القطع المتوسّط، والذي يضمّ بين دفتيه سبعًا وعشرين قصيدةً في ثلاثة فصول . المساء على اعتباره زمن الغواية الأهم : ينشط الزمان في نصوص مهدي سلمان؛ والمساء تحديداً بشكل يبدو منطقيًّا بالنسبة إلي، فيكون مدلوله كونيًّا كما في نصّ (ارتباك):
هذا المساءُ أقلّ إرباكاً لقلبي
كلّ شيءٍ منه في الجهة الصحيحة .
أو أن يكون أنثويّ الرغبة كما في النص نفسه:
يا أنثى مساؤك ما يظنُّ الصمت
أو ما يبتغيهِ
مساؤكِ اللّونُ اختفى في خدعةِ الرمّان .
أو أن يكون ميقاتًا للقبلة كما في نصّ (أب - جد) :
مساؤكِ الوردة هلاّ تفتحينَ قبلةً في الناي ..
كي تطير من ثقوبه حمامة الشبّاك.. ؟!
أو أن يتّحد بالميتافيزيقيا، كما في نص (كلقاء على رطوبة موت):
لا لم أخنْ ؛
كان المساء يعدّ لي حزنًا ..
وكنت أراقب اسمي في هدوء.
الزهر / الفاكهة بوصفهما هاجساً شعريّاً:
أميل إلى توظيف أمثل لأصناف الزهر والفاكهة كي لا أسافر بعيدًا عن المعنى. وهو ما يميل إليه مهدي سلمان –فيما أزعم-، وبخاصّة أنّ قصيدته تحفل بتوظيف الورود على اختلافها ولكن من دون ترهّل يفسدها. وهو –أي مهدي– معنيٌّ بالفاكهة أيضاً. ولنا أن نختطف تلك الباقة: في نصّ (سوف أشبهك الآن)، للسوسن طعم النشوة والتحليق:
ووليدٌ غداً سوف يشبهني
حين تنبت سوسنةٌ في جناحيه.
في حين أنّ للسوسن ذاته معنىً فلسفيّاً مفاجئاً في نصّ (مسّ) :
أحمل هذي التواشيح في أذني
ويحملني سوسن الريش نيئةً..
كسماءٍ تخضّ حليبَ النهايات .
وفي النصّ ذاته يحضر الياسمينُ ضمانةً :
كيف للياسمين الذي قال عطرًا (…)
أن يبردَ الصيف فيهِ .
ويحضر البنفسج عارياً إلاّ من حيائه .. في النصّ نفسه:
كابتلال البنفسج من نفسه
كالسرير الذي – الآنَ – غادرهُ العاشقانِ .
فيما لم يخرج الرمّان عن معناه المباشر في نصّ (هناك في الماضي) :
وهناك في الماضي ؛
نساءٌ يحتفلنَ بنكهة الرمّان في أفواههنّ .
ويحضر العوسج الشائك مقترناً بهباء التشرّد في نصّ (هل الماء أنجز وعده):
وجئتُ ؛ تنمّ أطرافي بعوسجةِ الذهول
مشرّدًا كالغيمِ .
ويحضر النرجس بحمولة معانيه، خصوصاً أن النرجس حمّال أوجه. كما في نصّ (يقايضُ وردةً):
رأيتَ ؛
كما ترى في الماء نرجسةٌ
كما تتموّج الكلمات في كأسي الأخيرة .
ويحضر التفّاح مباشرًا في نصّ (وجعُ أرعن) :
ثمّ عرّيتني مثل تفاحة فجأةً .. أنتَ ؛
يالك من خطأ فادح .
ويحضر البرتقال وهماً للسَّكِينة في (أمرّن بالمكر) :
فلتفتعل مع صمتك بعض العراك وتخلد للنوم بحرًا على حافة البرتقالة .
تأسيس القصيدة على مبدأ الحوار :
يهتم مهدي سلمان بالحوار أو باستعمال ما يدلّ عليه من ألفاظ داخل النصّ الشعري، حتّى أنّه ليبدو إلي في بعض أركان نصوصه مسرحيّاً وفيّاً لأبطاله . و أنا – كقارئ – أتعايش مع تلك الآلية ما دامت في حدود الجودة، لأنّ الإكثار من (قالَ - قلتُ – قالتْ - أقولُ) يبعث على الضجر إن لم يكن متوازناً. والتوازن هو ما قام به مهدي في هذا المجال.. وأجاد فيه. وقد لمستُ هذا في نصوص عدّة مثل (ريبتي القلقة) و(يلغوان ببعض) و(في غمرة الأسماء) . غير أنّ المثال الأكمل على ما أدّعي من جودة كان في النصّ (على ربوةٍ .. عن يمين القصيدة) وهو النصّ المنحاز –و بشكل مربك- للشعر دون سواه. وحسبُ النصّ أن قال في لحظة الوقوف أمام الحقيقة :
قلتُ : (يا ربّاه هذا شاعرٌ يبكي أمامك)
أنتَ من علّمته بالحدس كيف يرى
وطفلاً كان يغزو الماء بالحمّى ..
ويغرق في رجولته
وأنت منحته مطرًا ليسكبه على مهلٍ بأحلام الصبايا ..
ثمّ أسرفَ في الخطيئةِ
أنت من علّمته أن يخطئ التصويبَ ..
ثمّ يتوب للمعنى إلهيَ ..
شاعرٌ يبكي أمامك .. !!
ختامًا : لمحتُ الشاعر مهدي سلمان لأوّل مرّة في العام 2003، وتقصّدت متابعته.. إذ قلّما أفعل ذلك. منذ ذلك الوقت جرت عادتي حين يسألني أحدهم عن اسمه وشعره أقول «مهدي شاعر مهمٌّ جدّاً» ..
والآن أنا أقولها بصوت عالٍ لا أكثر .
* شاعر عراقي مقيم في السويد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق