الوطن البحرينية/ صابر الحباشة:
عندما قرأت لمهدي سلمان مجموعته الشعرية الأولى ''هاهنا جمرة.. وطن.. أرخبيل'' (2007) شعرت بأنه صوت شعري متميز بين أقرانه يتوفر نصه على قدر من الحساسية الشعرية المحببة. ولم يخب توقعي في هذا الأمر عند قراءتي لمجموعته ''السكك البصارة'' الصادرة مؤخراً عن وزارة الإعلام بمملكة البحرين ودار الانتشار العربي. لكن العجب في أن يكون التالي أقل جذباً لي من السابق زال بمحاورة الشاعر حين أعلمني أنّ السابق في زمن النشر لاحق في الكتابة، ومن ثمة اطمأننت إلى حدسي وإلى أنّ مهدي سلمان يتطور بخطى ثابتة، وإن تعجّل إصدار مجموعتين متلاحقتين إحداهما أجوَد من الأخرى -في نظري- فلا بأس عليه، فهو -بوصفه شاعراً شاباً- يريد أن يتبوّأ مكانة في المشهد الشعري في البحرين، ولا تكفي المجموعة الشعرية الواحدة لتضمن مثل هذا الحضور. ولعلني لا أبالغ إن زعمت أن المشهد الشعري البحريني يعيش انتعاشة وتعايشاً بين أجيال من الشعراء تتفاوت رؤاهم الفنية ونصوصهم ومشاربهم الجمالية، فضلاً عن افتراق توجهاتهم الإيديولوجية...
لقد اختار مهدي سلمان أن يجعل ديوانه رمياتٍ خمس، جاءت النصوص فيها قصيرة مختزلة كثيفة تعلوها شاعرية لافتة واشتغال على الصورة، وبذل جهداً في الخروج من المعتاد، ولكن ما يؤسف له القارئ هو الشعور المتكرر بالخيبة من عدم اكتمال المعنى الموحي بصناعة كون شعري. وهذه السمة تكاد تكون ''عاهة'' مستديمة في نصوص الشعر الحديث. -وفي نظري- ربما يكون التأرجح بين الرغبة في التجديد والإغماض من جهة، والرغبة في المحافظة على حبل التواصل من جهة أخرى، هو الذي جعل المعنى ''ينوس'' بين الخفاء والضمور، دون أن يبلغ درجة الظهور... وربما أكون بحاجة إلى فهم شفرات خفية وقراءة ''ما بين السطور'' لمعرفة ما يُكمّل المعنى الذي يتراءى لي ناقصاً أو غير مكتمل.
الولوع بجمالية العبارة والسطر لا يكفي لتنشأ قصيدة مقنعة فنياً. فالنص الحديث يشيد معناه على امتداد النصّ طولاً وعرْضاً، بل لعله ينشئ المعنى لبنة لبنة، وهذا ما لا نجده في كثير من نصوص الشعراء الشبان.
ليست مقولة ''قتل المعنى'' التي تنادت بها بعض المدارس الأدبية الطلائعية والفنتازية لفترة مّا مُجدية لنعتبرها براديغما للإجابة عن سؤال: لم قتل المعنى؟ ما الغاية العملية والفائدة الفنية التي يمكن أن نجنيها من هذا التمشي المضاد للتواصل البشري؟
قد لا يكون من دور الشاعر أن يصنع الإفادة المعنوية العادية. لكن ليس من اليسير القبول بأنّ التعديل المعنوي المطلوب يحتاج إلى ضرب من المعقولية الشعرية التي لا تقطع مع المشهد المتواتر خلال حقب متوالية من تاريخ هذا الفن. لو قُيِّضَ لأفلاطون أن يعود إلى عصرنا لعله لن يتراجع عن طرد الشعراء من جمهوريته، ولكن لأسباب مختلفة. فالشعراء يحتاجون إلى أن يرتبطوا بعصرهم ارتباطاً لا يكتفي بالاحتجاج الجمالي على الطبيعة البشرية والطبيعة الصامتة.
يقول مهدي سلمان في قصيدة ''إيقاع'':
أوقفتني
وكان عليّ اللحاق
برائحةِ الحجر النائمِ
لم يكن عطرها
غير قشعريرة الناي
مغرورقاً بدمي
قبّلتني على اسمي
وقالت:
أنا أمّك الخائفة
وحضني شهيٌّ
كإيماءةٍ من بنفسجةٍ نازفة
وخوفي عليكَ
أرصّعهُ كل ليلة
بآخر قرطين من (سورة الناس)
أو سَورة العاطفة..
فخذ يا حبيبي فمي
...
لحظةً..
والكلام الذي هوّمتني بياقوتِهِ
في خطاها..
اختفى..
؟؟؟
يبدو هذا النصّ مكتنزاً بلفتات رومنسية جميلة، تتسق بعمق إيقاعي لطيف، لا يهز الأعطاف بسبب ثقل قافية شرسة بل ينساب مع سيولة القول في حنوّ عذب. غير أنّ الرومانسية الجميلة تنكسر تحت وطأة نزعة إيروطيقية جامحة (فخذ يا حبيبي فمي) ما يدمّر نسيج الإيحاء ليصبح القول عملاً لا حلماً، ويصبح الشعر صريحاً لا تلميحاً. غير أنّ القفلة في آخر النصّ تحاول أن تتدارك هذا الدرك الذي جثم على أفق النص.
ويبدو التراوح بين التمرد والخضوع لسنن القول الشعري في تسمية بعض آيات سورة الناس ب(قرطين) وهذا العدول في التسمية الجزئية يتبعه عدول في تسمية مجاورة (أو سورة العاطفة) فكأنه يهرب من قيد الاحتجاج الديني ليواصل رض بديل شعوري عاطفي. وكأنه يريد أن يحاصر وضوح المعنى الذي يفرضه توسّل الشاعر بالسورة لإبعاد الحسد والسحر والشر، عبر قراءة المعوذتين. فإذا به يستدرك هذا الموقف الامتثالي لينشئ عدولاً كليّاً يوهم بإنشاء عالم مواز ومجاور للعالم العادي الذي تعيش في كنفه الخطابات الرتيبة.
ولكن الشاعر لم يتمكن من انتشال الرتابة كلّيّاً، بل هو واقعٌ أحياناً تحت وطأتها وإن بشكل خفيّ نحو تصوير الكلام الجميل بالياقوت، وهي استعارة متداولة، غير أن الجمالية التي يبتكرها الشاعر -أو ينحو نحو ابتكارها- تتمثل في جعل هذا الكلام الجميل يختفي في خطى الحبيبة... فكأنّ الشاعر يعمد إلى إجراء مفاوضات -إن استعرنا هذا المصطلح السياسي- بين التراكيب والصور المستعادة من الأفق المعتاد وبين الابتكار الذاتي الذي يعمد إليه الشاعر، بطريقة تشي بالاقتدار على المراوحة بين ترسّم النموذج التقليدي وبين النموذج الحداثي، في توليد المعاني وصناعة الكنايات والصور.
وقد لا يكون التحديث وتخليق الصور بشكل حداثي متجاوزاً لنمط التصوير البياني التقليدي، ناجحاً في مطلق الأحيان؛ بل قد لا يستسيغ الذوق بعض تلك الإحداثات والتخييلات:
(لم يكن عطرها
غير قشعريرة الناي
مغرورقاً بدمي)
من المؤكد أنّ الشاعر أراد أن يصف روعة تأثير عطر الحبيبة بهذا التصوير الموحي لكنه يفتقر إلى الجمالية، لأنّ عناصر الصورة متنافرة، تدلّ مفردةً على معنى التأثير البالغ ولكن تركيبها ولّد شعوراً بالنشاز لأنّ تكثيف التصوير يتناقض مع ما يُفترض أنّه جمالية تصويرية معهودة. ولعلّ الهروب من البساطة والعدول عنها أدى بالشاعر إلى سلوك هذا المسلك الوعر، غير المأمون العواقب، دائماً.
بل لعلّ هذه العناصر: (القشعريرة، الناي، الإغريراق، الدم) ذات إيحاءات عجيبة، ولكن الجمع بينها في مشهد مركّب قد أربك المعنى، ولعله قلّص من التأثير الذي رغب الشاعر في إحداثه في المتلقي.
فقد يكون الشاعر أمام ''كيمياء'' وإزاء ''معادلات'' لا يمكنه أن يفلت من الوقوع رهينة إخفاق مّا في أحد المستويات، خصوصاً إذا دقّت الحدود بين العدول الجميل والتكلف المقيت وخفيت رسومه على غير ذي الخبرة بتصريف الأقاويل التخيلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق