تتأتى الصورة الشعرية البارعة الحسن من سبل شتى؛ لعل الشاعر المُفلق هو ذاك الذي يجعلها عيانا لا سماعا. وكلما انشحنت الصورة بالتوتر الخلاق، أوقعت المتقبل في لذة أصخب ومتعة أسخى.الكون الشعري الذي ترسمه القصيدة الحديثة هو كون مختلط بين عناصر ومكونات لا تلتقي إلا في الحلم أو على بياض الورقة.. يتشظى الكون المعقول المنضبط بقوانين المنطق، ويتراخى على إيقاع كثافة إيقاعية تخييلية عالية تشتط في أن ترينا ما لا نراه عيانا.تبدأ القصيدة منسابة رقراقة تضفي على القارئ إيحاء لطيفا بالسرد أو الوصف الوديع.. ثم تتشكل ملامح اللوحة، فتفتن الرائي وتخلب لبّ المتقبل.لا غرابة في أن ينتقي الشاعر مهدي سلمان أحلى قصيدة ليصدّر بها ديوانه البكر ‘’هاهنا جمرة، وطن، أرخبيل’’. فقصيدة ‘’ارتباك’’ بالفعل تربك قارئها وتوقظه على دهشة فنية ومتعة جمالية خالصة:هذا المساءأقل إرباكا لقلبيكل شيء منه في الجهة الصحيحةصمته في ذيل طاووسوأعمدة الإنارة سُلِّطت نحو السديمووجه ظلمته على وطنشوارعه إلى الأحشاء تُفضي (ص11)تلتقي في هذا المقطع تجليات لغوية متراكبة وإجراءات أسلوبية متعاقبة: الإسناد يفتح باب الحدّ، والحدّ يتم بالأعراض. تتوالى الجمل الاسمية ذات المبتدآت المركبة من مضاف ومضاف إليه (كل شيء - صمته - أعمدة الإنارة - وجه ظلمته) بنية مستقرة تتكرر مرة في صيغة إسنادية وأخرى في صيغة جملة نعتية (تتكون بدورها من مركب إسنادي اسمي).. فالوصف يسيطر على هذه البنية التركيبية العامة لهذا المقطع. وإذا نظرنا إلى العناصر المذكورة في هذا المقطع، انطلاقا من محتواها الدلالي، وجدنا أنها تنقسم إلى عناصر طبيعية وأخرى بشرية، وفق الجدول التالي1:الطبيعة - البشر - المساء - ذيل طاووس- السديم - ظلمته - الأحشاء - قلبي - أعمدة الإنارة - وطن - شوارعه.غير أن هذا الجدول لا يعبّر بدقة عن تواشج هذه العناصر وتكتلها في لحمة النص وسداه. إن الشاعر يربط بين متعلقات الطبيعة ومتعلقات الإنسان في ضرب من الحميمية، بل قل في نوع من التنافذ والانسجام الأنتروبومورفي (التجسيمي) حيث لا عوازل ولا فواصل بين القريب والبعيد أو بين الكبير والصغير أو بين الواسع والضيّق...إنه كون شعري لا يجد حرجا في لملمة أشتات لا تلتقي أبدا. ولا حرج في أن تطلب المعنى فلا تدركه:صمته [المساء] في ذيل طاووسعبثا تحاول أن تتعسف على الكلام، فتتأول من حضور الطاووس معنى الخيلاء والعُجب، ولكن هل يمكن أن تنقل هذه الدلالة الرمزية الإيحائية من الطاووس إلى ذيله؟ طبعا للذيل دلالة سلبية في العادة .. فإذا زاوجت بين المضاف والمضاف إليه، ألفيتَ الصورة قائمة على ثنائية البناء والهدم.إنها محاولة للإرباك عمدت إليها اللغة لتجعل المتعلقات الصوتية السالبة (الصمت) مُسندة إلى المتعلقات المرئية المبنية المهدومة (ذيل طاووس)، فتنشأ تفاعلات لغوية معرفية تؤدي إلى إحداث دهشة تتجاوز حدّ تراسل الحواس الرمزي إلى تحقيق نوع من التفريغ القسري للعبارات من محتوياتها القضوية.وتصبح الاستعارة مكتنزة بتراكيب متنافرة تذهب بالتأويل كل مذهب، وقد يكلّ الفكر ولا يقرّ على قرار.. إنها استعارة مفخخة باللامعنى وصورة منفتحة على كل التآويل.. أي إنها تشكيل فريد لصناعة المفارقة وبناء التخييل.وتبدو صورة المزاوجة بين الطبيعي والبشري واضحة في قوله ‘’وأعمدة الإنارة سلطت نحو السديم’’.فكأنّ الفعل البشري المحدود يتوجه نحو أفق وفضاء طبيعي لا حدود له، وهو ما يعزز المفارقة. أمّا الربط بين شوارع الوطن والأحشاء، في قوله ‘’ووجه ظلمته على وطنشوارعه إلى الأحشاء تُفضي’’.فواضح الدلالة الرمزية على الانتماء والولاء... وإن كان جعل الأحشاء هدفا للشوارع ومستقرا لها، فيه ما فيه من عكس الصورة التي ابتناها في الصورة السابقة:المحدود - اللامحدوداللامحدود - المحدودفيظهر تشكيل حلزوني ينطلق من البشري ويعود إليه بعد أن يمر بالطبيعي ثم بالبشري الرمزي (المتوسط بين البشر والطبيعة: أي فعل الإنسان في الطبيعة) ولكن كيف يكون للظلمة وجه؟ ههنا تتبلور ثيمة التناقض التي ينبني عليها المقطع:ذيل - طاووسالإنارة - السديموجه - ظلمتهشوارعه - الأحشاءثمة تصبح عبارة (الجهة الصحيحة) دالّة - بطريقة تهكّمية - على عكسها تماما.فالكون الذي تنشئه لوحة البداية، متنافر متناقض يحمل بذور الارتباك وهو صنيع لغوي تشكل بفعل بلورة الاستعارات المتنافرة والمفردات المتناقضة والعلاقات المتجافية .. ممّا يزيد في تعقيد وضعية الصورة المتشكلة في سياق الاستهلال الذي يدلف عبره القارئ إلى جوهر القصيدة ومتن الديوان.ملاحظة:وضعنا كلمة (الأحشاء) في قسم الطبيعة وكلمة (القلب) في قسم البشر لسببين: الأول أن (القلب) مسند إلى ضمير المتكلم في حين أن (الأحشاء) لم تكن كذلك، الثاني أنّ (القلب) يحتمل دلالة مجازية، فيصبح استعارة عن موضع المشاعر والاعتقاد ... وهي من خالص متعلقات البشر .
4-8-2007م
4-8-2007م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق