مهدي سلمان في السماء تنظّف منديلها البرتقاليّ
بيروت - قزحيا ساسين
تتعدّد تجارب شعراء العرب، لا سيّما الشباب منهم، مع الحداثة، وتواكب صعوبة ملحوظة في إثبات ذاتيّة الشاعر وخصوصيّته واستقلاليّته، فتغدو الطلسمة والإغراق في الرمزيّة المغلقة سمتين أساسيّتين لمعظم النصوص الحداثويّة، وتغلب بصمات الحداثة بحدّ ذاتها على النصّ مصادرة المساحة التي من المفترض أن تظهر بصمات الشاعر الخائض تجربته بهدف الوصول المتميّز إلى قصيدة خاصّة.
في جديده «السماء تنظّف منديلها البرتقاليّ» يقدّم الشاعر مهدي سلمان مجموعة قصائد إلى القارئ العربيّ، ويهديها إلى إحداهنّ: «إليك أومئ / وناحيتك أشير / أعدّ قلوبي قلبًا قلبًا... فلا أرى فيهم سواك». وليت سلمان تجنّب هذه الصفعة اللغويّة في إهدائه لأنّ جمع ما هو غير عاقل يعاد إليه بضمير المؤنّث المفرد، ويجب القول «فيها» لا «فيهم». يبدو الشاعر في قصيدته الأولى «تتفقدها ... تستريب به» مسكونًا بهاجس الأسئلة التي تشكو غياب الطريق إلى أجوبتها، ويضع الكلام على لسان امرأة تقول: «أيّ ذنب تراني اقترفت / لتسكنني هذه الجمل المستديرة». وقد تكون استدارة الجمل شكلاً من أشكال السجون وطريقة من طرائق الأسر، وحينذاك تصير اللغة المكان الأصعب، يقيم فيها الإنسان لائذًا بنافذة الصمت: «والصمت صنّارتي / لاصطياد اللغات الحميمة والمقفلة». بعد الجمل المستديرة يلجأ سلمان إلى اللغة المقفلة وفي التعبيرين اغتيال لقدرة اللغة على التعبير وتكريسها مأزقًا وجوديًا لا مفرّ منه. فاللغة المفترَضة للبوح والوصول والإيصال تحوّلت كومة أسئلة... وقصيدة «تتفقدها... تستريب به» تحتمل الالتباس والتأويل من عنوانها إلى آخر كلمة فيها، فالراوي ملتبس والمرسل إليه ملتبس أيضًا، فهل هي امرأة تتكلّم؟ الجزء الأخير من النصّ يعلن ذلك. ومن هو المخاطب؟ الشاعر، أم رجل ما، أم الله؟ لا دليل في النصّ. تقول أنثى القصيدة: «من أنا كي أصدّق/ أنّي اختبارُك للأنبياء/ وأنّك أرسلتهم كلّهم لتدحرجَ هذا الكتاب إلى عنقي / ولتُغرق في لجّتي الأمم الجاهلة». ومثل هذا الكلام مشحون بدلالات سماويّة لا تجرؤ أن تكون سلبيّة ولا تريد أن تكون إيجابيّة، وتستمرّ القصيدة على هذه الوتيرة من حيث المعاني في ظلّ ضباب رمزيّ كثيف يعطّل الرؤية ويعيقها، فيلاحظ القارئ فوضى لغويّة بمجاز طاغٍ ويتعذّر عليه الوصول إلى نسغ القصيدة و{الهزة» التي من المتوقّع أن تحدثها ... وتنتهي القصيدة إلى أنّ أنثاها يسكنها الغرام، ما جعلها تجتاز جسرًا لغويًّا فائق الظلام، وترفع رجلاً إلى مرتبة الإله، أو تجرّد الإله من خصائص الألوهة ليصير رجلاً يحَبّ بجنونه، كالدّجال... وفي تتبّع لمجموعة سلمان يتّضح للقارئ أنّ كاتب النصّ يسدّ القنوات المعنويّة بين الرموز عن سابق تصوّر وتصميم، فيتّسع بساط التأويل دائمًا، وإذا وردت جملة واضحة فهي واحة مضاءة في صحراء مظلمة، كقول سلمان: «من يلوم الغريب إذا ما غفا / فوق دفتر أشعاره»، أو «ها نحن نقذف أيّامنا كالوسائد ما بيننا»، أو «وكانت خناجرهم تتهيّأ / مشحوذة في خواصرهم.».
تُظهر قصيدة «ورق أصفر من مفكّرة مهملة» حضور الحبّ، كما تظهره قصائد كثيرة في الديوان. والكلام أيضًا وأيضًا على لسان امرأة تعلن حبّها بتأييد من الله: «حين هاتفتُك استبدل الله صوتي / فكان الصهيل». والله كثير الوجود في قصائد سلمان، وفي هذه القصيدة هو نصير الرّجل: «حين صرختَ بوجهي / استندت إلى الله... / حين بكيت استندت إليك». ويعود الشاعر ويؤكّد ذكوريّة الله الشرقيّة التي تنحاز إلى الرجال دون النساء، وهكذا تلتجئ الضحيّة إلى قاتلها الذي فيه الخصام وهو الخصم والحَكَمُ. ويمعن الشاعر في تصوير ألم الغياب، لتغدو أنثى قصيدته فريسة النسيان إلى حدّ نموّ أصابع للغبار المسوّر قلبها: «في غيابكَ / تنمو لهذا الغبار / الذي يتسلّى بقلبي / أصابع». وفي الانتقال من قصيدة إلى أخرى يتراءى للقارئ أنّ سلمان يحسن مجاذبة الكلمات على وضوح شهيّ، ولو أنّه يكثر من الظلال المتداخلة في مواضع كثيرة، كما في قوله: «يا احتيال الطريدة تلحق وجه المطارد»، و{ها أنا أهدم هذا السرير بما فيه من ذكريات عليّ»، و{اتركاني قليلاً أقصقص أطراف صمتي»...
في قصيدة «قاتلي الطيّب» استسلام أنثويّ للخنجر الذي أتقن ذبح المرأة، ومديح له، فهو حادّ مثل ابتسامة صاحبه الذهبيّة، وطيّب، ومتلألئ بالسّحر، ولا يصفح و{قور ومبتسم كنبيّ، ولعلّ هذا التشبيه ذا الدلالة الدينيّة يعيد إعلان تواطؤ السماء مع الرّجل على المرأة. وبعد الذّبح تمسح الضحيّة دمها عن الخنجر الطيّب وتنحني وتصلّي. امرأة سلمان تكاد تكون واحدة في قصائده كما أنّ السماء واحدة، وهي تتلقّى الجريمة بلا أيّ رفض، وكأنّها مقتنعة بالسياق الذي يهدر دمها دائمًا وتعوّض عن البحث عن النجاة بمديح قاتلها الذي من المفترض أن يكون ثأرًا لا مديحًا. منسحقة هي المرأة في قصيدة سلمان، ربّما لأنّ: «الحقيقة تمشي على الرمل / من دون أقدامها»، وربّما لأنّ رمل الشّرق التعيس لا يستطيع أن يصير ترابًا يضيء وردة لمرأة كبطاقة اعتذار عن كلّ بشاعات الذكورة...
يحاول سلمان في قصيدة «تنام على زهرة الليل» الموزّعة على سبع نوافذ شعريّة أن يثير قضيّة ليست بعيدة من المرأة بحسب بعض الدلالات الرمزيّة. فضمير الغائب للمفرد المؤنّث يرجّح أنّه عائد إلى المرأة، وضمير الغائب للجمع المذكّر قد يكون عائدًا إلى رجال الشّرق، الذين قتلوا المرأة لأنّها عرفت سرّهم، ووأدوها و{انتبهوا للفرات الذي خبّأته بحلمتها / قطعوا ثديها / وبكوه قليلاً / كما يفعل الآخرون بسندسهم». ولا شكّ في أنّ الشاعر يستحضر تاريخ العرب مع المرأة، ليعلن أنّ هذا التاريخ لا يزال حيًّا يرزق نساء ونهودًا برسم القتل والقطع والوأد... وإذا كان العرب يستأصلون النهود بخناجرهم، فسلمان المحتجّ، والرافض الذي ضاقت عليه الأزقّة بعد ما رأى الحياة على طرف الخنجر، يهرب إلى الشّعر واللافت أنّه يفعل بحلمة الشّعر ما فعله الشرقيّون بحلمات النهود: «أعضّ على حلمة الشّعر»، وليته استعاض عن العضّ بما يشاء ليكون على تلاؤم مع سياق يؤدّيه.
وإذا كان من لقاء بين الشاعر وأنثاه الغامضة فلن يكون سوى في قبرها: «ثمّ يتّسع الموت لي ولها / ثمّ أقضم تفّاحتي». هكذا، وعلى امتداد قصائد الديوان، لا تجد الحياة ممرًّا لها، والتّفاحة بما لها من دلالات تنبض بالسماء والجسد وربّما الفرح، يقضمها الشاعر مكفّنًا بالظلام وبالهزيمة تحت التراب، وإلى جانبه امرأة أمضت سني عمرها مادحة قاتلها والخنجر.
يرجع سلمان في قصيدة «مناحة بيضاء» إلى مخاطبة نبيّه والغمز من قناة السماء، فنبيّه يتشظّى زجاج وجهه، ويجعل الشاعر نجمة منشطرة إلى سؤالين، ومعظم قصائد سلمان يحترف طرح الأسئلة والتساؤلات، لا يجترح الأجوبة، ويترك الرمز المسرف في الغموض محاولاً البوح بالمسكوت عنه. ويبدو نبيّ سلمان مظلومًا، وسيذهب للناي وحيدًا بلا عينيه على رغم أنّ الله أهداه قميصًا أبيض... ذلك النبيّ الذي: «حكّ الجبهة البيضاء للكون بكفيّه» هو محاصر بنبوءته، مطاردٌ من وادي حزن إلى آخر، وبه تليق المراثي. منهمكة سماء مهدي بتنظيف منديلها البرتقالي، ومتفرّغ هو لحصاد ضباب اللغة وحياكته قصائد تشكو كثرة الظلال وشحّ الضوء، ما جعل المعاني تئنّ تحت ثقل المجاز الكثيف والمركّب الذي نال من انسياب القصيدة والبساطة التي من المفترض أن توحي بها، وجدير بالذكر أنّ البساطة في الأدب هي منتهى الصناعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق