مع النسيان



هل نعود للنص فعلاً عندما لا نستيطع التذكّر وفقط؟
في المسرح قد ينسى الممثل دوره أحياناً، فيلجأ أولاً إلى محاولات تذكّره، وأحياناً قد يلجأ إلى البحث عن كلمات مناسبة للتعبير عما كان يريد النص أن يقول، في أحيان أخرى، يتوهم الممثل معنى ما وعلى أساس هذا الوهم قد يصيغ عبارات لا تنتمي لا معنى ولا مبنى للنص، ولكن في النهاية يظل النص هو المرجعية، فيعود الممثل لأوراقه لكي يتأكد من أن كل ما سيقوله (صحيحاً)، ولكن لماذا يجب على الممثل أن يحفظ النص؟ لماذا يجب على الممثل أن يحفظ كل كلمة فيه؟
ماذا لو أخذنا نصاً ما.. يقرؤه الممثلون مرة أو مرتين، ثم أخذنا هذا النص المسرحي منهم، وتركناهم يتذكرون النص حسب ما فهموه من هاتين المرتين، ماذا كان سيحدث.. مسرحياً ربما يفشل الممثلون في خلق نص شبيه بالنص الأصلي، ربما يخلقون نصاً أفضل بكثير من النص الأصلي، وربما يلتزمون بما هو وارد في النص بالمعنى ولكن وقتها ربما تتغير اللغة بحيث تكون قادرة على مطاوعتهم لتشكل هي جزءاً من الشخصية التي يرسمونها على الخشبة.
مسرحياً كان ذلك.. ولكن حين ننسى نحن جميعاً النص، جزءاً منه، نتوهمه ونخلقه من جديد، ماذا يعني ذلك، هل يعني أننا نرفض هذا النص، عبر لا وعينا نحاول الخروج عليه، وما الذي يظهر محل الأجزاء المنسية؟ الأصل.. الرغبة الأولى.. الهوية الحقيقية لنا بعيداً عن النص؟
لا يحدث النسيان عفوياً دائماً، إنه أيضاً فعل إلغاء، فكرة ما يرفضها العقل والوعي ويحاول استبدالها عبر عملية معقدة هي الإبدال، تبدأ بمحو الأجزاء المناقضة للعقل، تشويهها، ثم بعد ذلك تقريب معاني قريبة منها، وتجري عملية الاستبدال هذه مرة بعد مرة إلى أن تصل إلى القناعة الأصيلة، النسيان في هذه الحالة هو عملية إصلاح، إعادة تهيئة (للنص).
ولكن لماذا نحتاج للنسيان لنعيد تهيئة النص؟ في أغلب الحالات نحن لا نستطيع تغيير النص، إننا فقط نغير فهمنا للنص، وجزء من هذا يفعله العقل حتى مع وجود النص الماثل، ولكن أيضاً جزء آخر يتم في غياب النص، ولا بد أن يتم في غياب النص، لأن العقل وقتها غير قادر على الخروج من سطوة المعنى المنطقي لما يحمله النص، ولذلك فإن النسيان هو الحل الأمثل للتلاعب بالمعنى، ليس بالمعنى السلبي لكلمة تلاعب، ولكن التلاعب بقصد الخروج من أسر النص إلى فضاء أبعد هو (كتابة) نص آخر على هذا النص دون الإعلان عن ذلك، عبر عملية (عفوية) كما يظهر، وغير مقصودة.. ولا واعية، هي.. النسيان.
غير أننا في النهاية نخالف هذه الطبيعة البشرية بالعودة دائماً إلى النص، إننا وخصوصاً لدى التعامل مع النص المقدس لا نستطيع الخروج إلى مناطق العقل، لذلك نعود دائماً إلى النص، وحتى لو استطاع عقلنا أن يعدّ لنا فهماً مختلفاً عبر خلقه لوهم ما في البنية اللغوية لنص ما، فنحن نعود لنهدم ما بناه هذا اللاوعي عبر العودة إلى النص، عقلنا يريد أن تظهر شخصياتنا الحقيقية بعيداً عن النص، بينما وجداننا يقودنا مرة بعد أخرى إلى النص بحيث لا نستيطع أن نخرج عنه، إننا نعود إلى النص لا لنتذكره فقط، إننا نعود إلى النص لأننا نقاوم النسيان، لأننا لا نريد أن ننسى، لأن النسيان بمعنى من المعاني هو خلق هوية أخرى للنص، هوية تعنينا، بينما التذكّر هو هوية النص وفقط.

ليست هناك تعليقات: