وهم القفص المفتوح.. طمأنينة الباب المغلق




مريم في (حوام) كانت التقاطة رائعة كشخصية، استطاع صبر وأناة حسين المحروس أن يهيئاها له وأن يبرزاها بتفاصيل موغلة في العمق، وموغلة في الإيحاء أيضاً، وكان عليه فقط أن يترقب اللحظات المناسبة لاستكشاف هذه الشخصية واستكشاف طبقاتها المتعددة والمتباينة أو المتداخلة أحياناً حدّ الاختلاف الطفيف الذي لا تدركه سوى عين أخذت دربتها الكافية على الالتقاط وقبلها على الصبر والهدوء والسكينة والاختفاء والكمون حدّ الالتباس مع الأشياء وحدّ الشعور باللاوجود، كلما قرأت الرواية كلما أدركت أنها تتحدث عن شخصية التقطت بإتقان، لأنها عبر طابعها العام، عبر مزاجها الشخصي وعبر خصوصيتها الداخلية، قادرة على أن تخرج بنا من إطار انفعالاتها الخاصة، وتصرّفاتها المرسومة في الرواية بحسب الحدث وبحسب الفعل وردة الفعل وبحسب المناخ العام والجو العام سواء الزمني أو المكاني للرواية، إلى أن تمثل شخصية (بحرينية) بامتياز، تحضر فيها الطبيعة الوجودية للشخصية، الطبيعة الإنسانية للشخصية التي تتكون عبر مكونات جينية وبيئية ومعرفية معينة لتصبغ الشخصية باختلاف الزمن وباختلاف المكان وإن كان بشكل نسبي، وشخصية مريم هنا لا تحضر باعتبارها الجنسي أي لا تحضر كونها امرأة، وربما هذا ما جعلها شخصية استثنائية كشخصية (أنثوية) ولكنها أيضاً شخصية استثنائية كشخصية إنسانية بوجه عام، مريم في الرواية ولدى الإمعان فيها هي شخصية مثال، كل من في (حوام) كانوا يشبهون مريم، ولم يكونوا يشبهونها، لأنها وحدها فقط خرجت من التشابه الكلي، من نسق الشخصيات التي تدّعي (الشغف)، باعتباره طمأنينة، إلى (الشغف) باعتباره قلق. إلى الشغف باللا شغف نفسه، إلى فهم العلاقة الجدلية بين الشغف بأمر ما، وبين الشغف بالشغف نفسه في أمرٍ ما.
كثيرة هي الشخصيات في الرواية التي توضّحت بنيتها من خلال هذا الشغف بالشغف، ولا يهم بعد ذلك ما هو هذا الشغف، ما هو هذا الأمر الذي تنسحب له الشخصية وتخضع له، ما هو هذا الأمر (القفص) الذي تسكنه الشخصية وهي تعتقد أنها (تتملكه)، زكريا مثلاً وأيضاً كل أصدقائه المولعين بالحمام بالرغم من كل ما يمكن أن توحي به شخصيته من شغف، إلا أنه شغف باهت، شغف مصطنع ومزيّف، قائم على ما يشبه الاستعراض، أو البحث عن طمأنينة الشغف، البحث عن الانغماس في آخر، الانغماس في (الجمعي) أو (الجماعي)، وإن كان هذا الجمعي ليس سوى قفص الحمام، صور الحمام في غرفة زكريا تشبه إلى حد كبير صور الزعماء الدينيين والسياسيين والثقافيين أيضاً التي نولع بها، والتي تطمئننا إلى انتمائنا لهم، فزكريا كان يبحث عن طمأنينة واهمة بالانتماء للحمام، كما حالة كثير منا ممن يتوهمون الانتماء عبر إعلانه لأنهم يخافون أن يفتضحوا أمام ذواتهم بأن كل هذا الانتماء الكبير يمكن أن يضيع في لحظة فقط، لحظة يكتشف فيها زكريا أنه كان يكذب على نفسه، فيفتح أبواب أقفاص الحمام ليطيرها جميعاً، عارف أيضاً بالرغم من اقترابه كثيراً من ذاته عبر الموسيقى، إلا أن هذا الاقتراب، وتلك الحالة الخاصة به حين يعلن شغفه بالعود، ما يلبث أن ينكشف له من الداخل، حين يدرك أن الموسيقى لم تكن بالنسبة له هو الآخر سوى (قفص)، قفص يحمي به ذاته وحسب، (أناه) كانت هي الجماعة التي ينتمي إليها، ولكنها أيضاً جماعة خائفة ومنغلقة، وبالطبع نساء البيت كنّ شغوفات بطمأنينة التحرك الراكد للحياة، لم يكن يعنيهن سوى أن تستمرّ هذه الحالة من الركود، هذه الحالة من التحرّك الزائف.
وحدها مريم لم تدّعِ الشغف سوى بالحياة نفسها، الشغف بالنسبة لها كان أمراً يجيء وقت ما تريد له هي أن يجيء، لم ترهن نفسها لشغف ما، سوى شغف القلق الداخلي في شخصيتها، مريم هي شخصية التحولات الكبيرة والمفاجئة، تشبهنا كلنا في ذلك، ولا تشبهنا في أن كل تحولاتها كانت نابعة منها هي، لأنها برغم كل هذه التحولات لم ترتهن أبداً إلى ما تتحول إليه، لم تنظر إليه أبداً تلك النظرة التي تجعلها خاضعة له، لم تكن تتحرك من داخل (الأقفاص) كانت تحاول أن تجعلنا نفتح الأقفاص التي نعيش فيها أكثر وأكثر، كلنا لدى الخروج من قفص ما لا بد أن نختار قفصاً آخر ننتمي إليه، إنه فقط وهم الدخول في ممرات متشابكة واعتقادنا أننا نجونا من قفص ما (ضيق) إلى قفص أكثر رحابة، وهي كانت تشير علينا بأن نذهب بعيداً عن فكرة القفص نفسه، القفص المفتوح بوهم الطمأنينة، أحبّت مريم أن تغلق الأبواب، لأنها وحدها كانت مدركة أن الأبواب خلقت لتفتح وتغلق، بينما كانت أم (عباس) تظن أنها عبر فتح الأبواب ستشعر بطمأنينة الإحاطة والمعرفة، الأبواب والأقفاص أيضاً ليست سوى فضاء، هي لا تحكمنا لأنها ليست سوى إطار فقط قادرين نحن على التحكم به.
من يقرأ شخصية مريم سيقرؤها من جوانب عدة، وسيكتشف كم أنها كانت شخصية التقاطة بالنسبة للمحروس (سأحسده عليها كثيراً) إنها مرآة صافية وضعت في بيت زوجها لتكشف لنا نحن قراء رواية (حوام) كم أن هذا البيت مصطنع ومزيف، كم أن من فيه لا ينتمون إلا لوهم الانتماء نفسه، شخصية بعدة طبقات لا تستطيع أن تقبض عليها كلها دفعة واحدة، عليك أن تقرأها أولاً ثم ثانياً ثم.. وهكذا تقدر أن تقرأ الشخصية في كل قراءة برؤية مختلفة ومغايرة، ليست مريم هي الشخصية (الأنثى) وحسب، وإن كانت هذه الشخصية أيضاً لها إشكالاتها العميقة، ولها شروخاتها الداعية لقراءات في بنيتها النفسية والاجتماعية والعقائدية أيضاً، ولكن من يقرأ (حوام) أو (مريم) بوجه واحد فقط، هو الوجه الاجتماعي عليه أن يعيد قراءتها مرة أخرى بوجوه أخرى، ليكتشف كم أن مريم تشبهنا، أو كم نحن نشبه مريم.. وكم نحن لا نشبهها، كم أن مريم هي فينا كلنا ولكننا لا نرضى إلا أن تعيش في الأقفاص، وعلينا فقط أن نتفهم أننا شخصيات لم تخلق لأقفاص، لنعرف بعد ذلك أين حدود هذا القفص وأين حدود الآخر وأين نريد أن نكون.. داخل هذه الأقفاص، أم خارجها.

ليست هناك تعليقات: