مجرد سؤال لا أكثر |
ذلك الباب الذي ينتصب في منتصف المسرح، لا جدار يمسكه، ليس لأنه لا يفضي إلى شيء، ولكن ربما لأنه يفضي إلى كل شيء.. ذلك الباب بالتحديد الذي من خلفه يتحلق ممثلو مسرحية (مجرد؟ لا أكثر) خائفون أحياناً، تائهون كثيراً، يجدون فيه الطمأنينة حيناً، والانتماء حيناً آخر، هو السؤال الأجدر بالبحث، هو الإغلاق على كل لاشيء نجهله، هو الغامض الذي نخافه فنتوهمه فنتخيله فنتصوره فنصدقه فنؤمن به فنخافه أكثر.
ومن خلف ذلك الباب أو من أمامه بالأحرى يمد مخرج العرض عقيل الخميس يده لممثليه ولنا لنعبره، إنه يشير لنا من كل جانب من الباب، لنرى كم هو معلق بالفراغ، كم هو ليس موجوداً تماماً كما نخشى، ولكن بالرغم من ذلك هو لا يريد أن يقول ذلك بكل هذه البساطة، لذلك كان عرضه يتكيء ليس على المقولة النهائية فقط، بل هو يريد أن يفسرها، أن يشرحها، أن يجعلنا نراها تماماً. ومن خلال ذلك كانت مشاهد المسرحية الثلاثة – بحسب ما أرى - ترصد ربما المساحات الثلاث التي نخشى عبور بابها، الجسد كرمز للمحرم والذي حوصر في الممنوع فأجبر على التخلي عن حقيقته حتى ضجّ تماماً وتوحّش، والدين الذي حصره البعض بعيداً عن المعرفة التي هي من المفترض أن تكون صنوه، فأخذ إلى الخرافة والعتمة، والنظام الذي من المفترض أن يكون الخيط الأثيري الذي يربطنا ببعض وجيّر لصالح مفهوم (السلطة) بحسب فهم خاطئ لماكس فيبر (حق احتكار العنف)، وهكذا تكتمل الزوايا في عرض تعبيري يختار أن يكون صامتاً يقول الكثير، ليس لأنه يخاف ما يقوله، ولكن لكي يترك لنا مساحات التأويل، مساحات التأويل التي هي في الأساس ما يدعو إليها العرض منذ البداية.
رينيه ماغريت.. والمرجعية البصرية
تكتمل الرؤية البصرية وأحياناً الدلالية لهذا العرض لدى مشاهدة أعمال الفنان السوريالي البلجيكي "رينيه ماغريت" ربما لأنها مرجعية مهمة في اشتغال المخرج البصري بشكل خاص، والدلالي أحياناً، فأعمال ماغريت خصوصاً تلك المتعلقة بالمعطف والتفاحة، كانت مجال اشتغال المخرج على نص عرضه المسرحي، ومنذ الباب الذي لا يمسكه جدار نجد ماغريت واضحاً في العرض خصوصاً في لوحته الشهيرة التي كان الباب فيها مفتوحاً على غيمة، وحين يبدأ المخرج في اشتغالاته يطل ماغريت أيضاً وفي لوحة أخرى هي تلك المرأة التي تركب حصاناً في غابة وتتماهى مع الغابة بحيث لا تعرف تماماً حين تنظر أنت تنظر للحصان أم لجذوع الأشجار، عالج المخرج الوهم هنا بشيء قريب مما عالجه ماغريت، عندما جعل الباب في النصف ورسم مشهداً على جانبه الأيمن لألم المعرفة، فيما رسم في الجانب الآخر مشهداً للخرافة مستخدماً أجساد الممثلين لرسم القنطور الإغريقي (الرجل الحصان)، ماغريت هنا والمخرج الشاب والجميل عقيل الخميس اشتغلا على الوهم، كيفَ يبنى، حتى يتحول إلى خرافة، إلى تضليل.
لقد استفاد المخرج من ماغريت غير أنه أبداً لم يخضع لمقولاته، فهو استفاد أكثر ما استفاد منه بصرياً وجمالياً، إضافة بالتأكيد لاستفادته من مفاهيم السوريالية ومعالجاتها للموضوعات التي كان يريد أن يطرحها، أو فلنقل لأسلوب معالجاتها للموضوعات، ويبدو واضحاً الأثر السوريالي في نَفَس الخميس، لدى رسمه لجميع المشاهد، ولجميع الشخصيات في العمل.
هذا ما وفّر الدهشة لعمله والتي هي ركن أساسي من أركان عمل المخرج المسرحي، لقد استفاد الخميس من فعل التخييل المبالغ الذي يعتمد على الحلم في الاشتغال السوريالي، ليصنع منه أداة مسرحية بامتياز، وربما يثير الدهشة كيف استطاع الخميس أن يحول اشتغالات تشكيلية بصرية، وأخرى ربما شعرية ذهنية، إلى صورة مسرحية معالجة باقتدار.
المحرم من الجسد حتى العقل حتى الفوضى التي تدعى نظام
لو عدنا إلى مشاهد المسرحية الثلاثة سنرى كيف بدأ الخميس مشاهده بالولادة، إنه يريد أن يطلق حالته الإنسانية العامة، إنه يريد أن يعود بنا إلى بدء الخليقة، إنه يرسم لنا من جديد (حي بن يقظان) آخر، وهذه المرة لا يريد أن يعالج من خلاله طبيعة الشخصية الإنسانية في فهمها لما حولها، ولكنه يريد أن يعالج فهم الإنسان نفسه لعلاقته مع (نفسه/ الآخر)، وواصل رسم الصورة، مستخدماً مخيلة متقدة واتكاء ثقافي يبدو غزيراً، ليعالج أولى موضوعاته وهي الجسد، ليصوّر لنا كيف يتم تكميم هذا الجسد، كيف يتم إخضاعه ولجمه، ثم بعد ذلك كيف يتحوّل هذا الجسد البكر إلى حيوان متوحش نتيجة لهذا التكميم، نتيجة لهذا الإقصاء لطبيعته التي خلق عليها، فنسمع صراخه الحيواني من جهة، ونسمع استغاثاته المؤلمة من جهة أخرى، وهنا تجدر الإشارة بهذا التوازن الجميل فيما بين الموسيقى والمؤثرات الصوتية وبين اشتغال المخرج عبر لعبة جسد الممثل، وإن كنتُ أذهب إلى ما ذهب إليه الفنان يوسف الحمدان من أن الموسيقى أحياناً سيّرت لعبة المخرج، لكني أعتقد أن هذا حدث في أحايين بسيطة، بينما في أغلب مشاهد العرض كانت الموسيقى هي الخاضعة لذلك الجسد الذي أراده الخميس حراً.
وينتقل التكميم من الجسد إلى العقل، الجسد الذي كان حراً ثم كمم ليكون خاصاً، كمم ليكون مُلكاً، كمم ليكون إقطاعاً لآخر، لا يستطيع صاحبه التصرف فيه، ولا يستطيع هو أن يكون كما خلقه الله، ثم العقل الذي به يمكن أن يتحرر هذا الجسد، ها هو يرتهن أيضاً إلى خوف الباب، ما الذي يمكن أن يكون خلف ذلك الباب، ما الذي يمكن أن يكون وراءه، على أحد ما أن يعبر ليرى، على أحدٍ ما أن لا يرتهن لخرافة ما، لقنطور إغريقي أو لأي خرافة أخرى، وعليه أن يتحمل ألم تلك المعرفة، يذكرني هذا بقول محمود درويش (لماذا إذاً كلما ازداد علمي، تعاظم همي؟) الذي يرتكز أساساً، على أسطورة الخلق الأول وتفاحة المعرفة المحرمة، وهنا يكون الخميس في أوج اتقاده الخيالي، ليرسم لنا مشهدين على يمين ويسار الخشبة، كل منهما يعبر تماماً عن جانبي الباب، المعرفة المرتبطة بالألم، والخرافة المرتبطة (بالأسطوري الجمالي).
ثم أخيراً في ختام مشاهده يمارس الخميس علينا وعلى ممثليه قسوة متقصدة، قسوة تمثل تحول النظام إلى سلطة، تحول الكلي إلى جماعي، باقتدار يذهب الخميس إلى نهاية العمل في رسم صورة ربما تبدو مأساوية، ولكنها في الحقيقة النهاية المنطقية لحبس الجسد والعقل، إنها الفوضى التي تسمى النظام، والقهر الذي يسمى السلطة وأيضاً هنا أذكر بيت أدونيس (لن تعرف حرية، مادامت الدولة موجودة) وهذا ليس أبداً انفلات من النظام أو الدولة، بقدر ما هو انفلات من السلطة التي تكمم، السلطة التي تقيد وتفرض وتحدد وتلغي، السلطة ليس كدولة أو نظام سياسي، بل السلطة بمفهومها الأشمل والأعم، وهو استيلاء الآخرين عليكَ كفرد، استيلاء الآخرين على حريتك وعلى حرية جسدك وحرية عقلك، وهو الأمر الحاصل الآن لشعوبنا العربية إن باسم السلطة وإن باسم الدين وإن باسم العادات وإن تحت أي مسمى آخر.
مشاهد الخميس لم تكن محددة تماماً كما قد يبدو من المقال، ولكنها بشكل ما كانت كذلك، لأنها تعاطت مع الثيمات الثلاث بقدر ما أقل هنا وأكثر هناك، ولكنها في النهاية أرادت أن توصلنا إلى ذلك، إلى ذلك السؤال الجوهري الذي يجب أن نسأله لأنفسنا، من الذي يقرر لنا أن نلغي كل قوانا ونرهنها له؟
المتعة في شكل فلسفة تريد الواقع
قدم طاقم عمل (مجرد؟ لا أكثر) عملاً ممتعاً بالأساس، عبر لعبة جسدية لممثلين يبدون مقتدرين تماماً ومتحكمين بأجسادهم، عبر خيال خصب قادر على الإدهاش في كل مرة، وقادر على التجريب في كل مرة، وقادر على شحن صوره بدلالات متنوعة ومختلفة هو خيال مخرج العمل الجميل عقيل الخميس، ولكنهم أيضاً قدموا عملاً إشكالياً بامتياز، من حيث موضوعه، عمل يبحث في أشدّ الأسئلة الفلسفية حساسية في منطقتنا في الوقت الراهن، وهو سؤال برغم هذا الشكل الفلسفي إلا أنه سؤال حياتي ومعيشي يدخل في أخصّ مناطق الإنسان، ولم يكتفوا بتقديم هذا السؤال وطرحه، بل قدموا معالجة ما لهذا السؤال، معالجة لا تريد فقط أن تكتفي بطرح الجواب أو بطرح احتماله، ولكنها تريد أن تتفعل تلك المعالجة عبر (إخراس العرض) كما أشار لذلك مخرج العمل في الندوة التي أقيمت بعد العمل، وأرى أن إخراس العمل لم يكن إخراساً بقدر ما هو أخراس ما خلف العمل ليقول هو ما يريد أن يقوله.
لن يمكننا أبداً أن نعرف أي جهد بذله أولئك الممثلون على الخشبة ليبدو بكل هذا التآلف، ليكونوا بهذا القدر من الإلتزام والحرفية، لن يمكننا أن نعرف أي جهد بذله الجميع في عرض فرقتي أمواج والنورس من القطيف، ليكونو صناع جمال حقيقي كهذا الذي قدموه لنا في الليلة الثانية من ليالي مهرجان أوال المسرحي السادس، ليس لشيء سوى لأن معرفة ذلك كله تتطلب أن نفتح الباب نحن أيضاً وأن ندخل فيه، باب المغامرة الذي يفضي إلى المعرفة التي تفضي إلى التجربة التي تفضي إلى البحث الذي يفضي إلى الطمأنينة القلقة التي تفضي إلى الدخول في مغامرة أخرى.
ومن خلف ذلك الباب أو من أمامه بالأحرى يمد مخرج العرض عقيل الخميس يده لممثليه ولنا لنعبره، إنه يشير لنا من كل جانب من الباب، لنرى كم هو معلق بالفراغ، كم هو ليس موجوداً تماماً كما نخشى، ولكن بالرغم من ذلك هو لا يريد أن يقول ذلك بكل هذه البساطة، لذلك كان عرضه يتكيء ليس على المقولة النهائية فقط، بل هو يريد أن يفسرها، أن يشرحها، أن يجعلنا نراها تماماً. ومن خلال ذلك كانت مشاهد المسرحية الثلاثة – بحسب ما أرى - ترصد ربما المساحات الثلاث التي نخشى عبور بابها، الجسد كرمز للمحرم والذي حوصر في الممنوع فأجبر على التخلي عن حقيقته حتى ضجّ تماماً وتوحّش، والدين الذي حصره البعض بعيداً عن المعرفة التي هي من المفترض أن تكون صنوه، فأخذ إلى الخرافة والعتمة، والنظام الذي من المفترض أن يكون الخيط الأثيري الذي يربطنا ببعض وجيّر لصالح مفهوم (السلطة) بحسب فهم خاطئ لماكس فيبر (حق احتكار العنف)، وهكذا تكتمل الزوايا في عرض تعبيري يختار أن يكون صامتاً يقول الكثير، ليس لأنه يخاف ما يقوله، ولكن لكي يترك لنا مساحات التأويل، مساحات التأويل التي هي في الأساس ما يدعو إليها العرض منذ البداية.
رينيه ماغريت.. والمرجعية البصرية
تكتمل الرؤية البصرية وأحياناً الدلالية لهذا العرض لدى مشاهدة أعمال الفنان السوريالي البلجيكي "رينيه ماغريت" ربما لأنها مرجعية مهمة في اشتغال المخرج البصري بشكل خاص، والدلالي أحياناً، فأعمال ماغريت خصوصاً تلك المتعلقة بالمعطف والتفاحة، كانت مجال اشتغال المخرج على نص عرضه المسرحي، ومنذ الباب الذي لا يمسكه جدار نجد ماغريت واضحاً في العرض خصوصاً في لوحته الشهيرة التي كان الباب فيها مفتوحاً على غيمة، وحين يبدأ المخرج في اشتغالاته يطل ماغريت أيضاً وفي لوحة أخرى هي تلك المرأة التي تركب حصاناً في غابة وتتماهى مع الغابة بحيث لا تعرف تماماً حين تنظر أنت تنظر للحصان أم لجذوع الأشجار، عالج المخرج الوهم هنا بشيء قريب مما عالجه ماغريت، عندما جعل الباب في النصف ورسم مشهداً على جانبه الأيمن لألم المعرفة، فيما رسم في الجانب الآخر مشهداً للخرافة مستخدماً أجساد الممثلين لرسم القنطور الإغريقي (الرجل الحصان)، ماغريت هنا والمخرج الشاب والجميل عقيل الخميس اشتغلا على الوهم، كيفَ يبنى، حتى يتحول إلى خرافة، إلى تضليل.
لقد استفاد المخرج من ماغريت غير أنه أبداً لم يخضع لمقولاته، فهو استفاد أكثر ما استفاد منه بصرياً وجمالياً، إضافة بالتأكيد لاستفادته من مفاهيم السوريالية ومعالجاتها للموضوعات التي كان يريد أن يطرحها، أو فلنقل لأسلوب معالجاتها للموضوعات، ويبدو واضحاً الأثر السوريالي في نَفَس الخميس، لدى رسمه لجميع المشاهد، ولجميع الشخصيات في العمل.
هذا ما وفّر الدهشة لعمله والتي هي ركن أساسي من أركان عمل المخرج المسرحي، لقد استفاد الخميس من فعل التخييل المبالغ الذي يعتمد على الحلم في الاشتغال السوريالي، ليصنع منه أداة مسرحية بامتياز، وربما يثير الدهشة كيف استطاع الخميس أن يحول اشتغالات تشكيلية بصرية، وأخرى ربما شعرية ذهنية، إلى صورة مسرحية معالجة باقتدار.
المحرم من الجسد حتى العقل حتى الفوضى التي تدعى نظام
لو عدنا إلى مشاهد المسرحية الثلاثة سنرى كيف بدأ الخميس مشاهده بالولادة، إنه يريد أن يطلق حالته الإنسانية العامة، إنه يريد أن يعود بنا إلى بدء الخليقة، إنه يرسم لنا من جديد (حي بن يقظان) آخر، وهذه المرة لا يريد أن يعالج من خلاله طبيعة الشخصية الإنسانية في فهمها لما حولها، ولكنه يريد أن يعالج فهم الإنسان نفسه لعلاقته مع (نفسه/ الآخر)، وواصل رسم الصورة، مستخدماً مخيلة متقدة واتكاء ثقافي يبدو غزيراً، ليعالج أولى موضوعاته وهي الجسد، ليصوّر لنا كيف يتم تكميم هذا الجسد، كيف يتم إخضاعه ولجمه، ثم بعد ذلك كيف يتحوّل هذا الجسد البكر إلى حيوان متوحش نتيجة لهذا التكميم، نتيجة لهذا الإقصاء لطبيعته التي خلق عليها، فنسمع صراخه الحيواني من جهة، ونسمع استغاثاته المؤلمة من جهة أخرى، وهنا تجدر الإشارة بهذا التوازن الجميل فيما بين الموسيقى والمؤثرات الصوتية وبين اشتغال المخرج عبر لعبة جسد الممثل، وإن كنتُ أذهب إلى ما ذهب إليه الفنان يوسف الحمدان من أن الموسيقى أحياناً سيّرت لعبة المخرج، لكني أعتقد أن هذا حدث في أحايين بسيطة، بينما في أغلب مشاهد العرض كانت الموسيقى هي الخاضعة لذلك الجسد الذي أراده الخميس حراً.
وينتقل التكميم من الجسد إلى العقل، الجسد الذي كان حراً ثم كمم ليكون خاصاً، كمم ليكون مُلكاً، كمم ليكون إقطاعاً لآخر، لا يستطيع صاحبه التصرف فيه، ولا يستطيع هو أن يكون كما خلقه الله، ثم العقل الذي به يمكن أن يتحرر هذا الجسد، ها هو يرتهن أيضاً إلى خوف الباب، ما الذي يمكن أن يكون خلف ذلك الباب، ما الذي يمكن أن يكون وراءه، على أحد ما أن يعبر ليرى، على أحدٍ ما أن لا يرتهن لخرافة ما، لقنطور إغريقي أو لأي خرافة أخرى، وعليه أن يتحمل ألم تلك المعرفة، يذكرني هذا بقول محمود درويش (لماذا إذاً كلما ازداد علمي، تعاظم همي؟) الذي يرتكز أساساً، على أسطورة الخلق الأول وتفاحة المعرفة المحرمة، وهنا يكون الخميس في أوج اتقاده الخيالي، ليرسم لنا مشهدين على يمين ويسار الخشبة، كل منهما يعبر تماماً عن جانبي الباب، المعرفة المرتبطة بالألم، والخرافة المرتبطة (بالأسطوري الجمالي).
ثم أخيراً في ختام مشاهده يمارس الخميس علينا وعلى ممثليه قسوة متقصدة، قسوة تمثل تحول النظام إلى سلطة، تحول الكلي إلى جماعي، باقتدار يذهب الخميس إلى نهاية العمل في رسم صورة ربما تبدو مأساوية، ولكنها في الحقيقة النهاية المنطقية لحبس الجسد والعقل، إنها الفوضى التي تسمى النظام، والقهر الذي يسمى السلطة وأيضاً هنا أذكر بيت أدونيس (لن تعرف حرية، مادامت الدولة موجودة) وهذا ليس أبداً انفلات من النظام أو الدولة، بقدر ما هو انفلات من السلطة التي تكمم، السلطة التي تقيد وتفرض وتحدد وتلغي، السلطة ليس كدولة أو نظام سياسي، بل السلطة بمفهومها الأشمل والأعم، وهو استيلاء الآخرين عليكَ كفرد، استيلاء الآخرين على حريتك وعلى حرية جسدك وحرية عقلك، وهو الأمر الحاصل الآن لشعوبنا العربية إن باسم السلطة وإن باسم الدين وإن باسم العادات وإن تحت أي مسمى آخر.
مشاهد الخميس لم تكن محددة تماماً كما قد يبدو من المقال، ولكنها بشكل ما كانت كذلك، لأنها تعاطت مع الثيمات الثلاث بقدر ما أقل هنا وأكثر هناك، ولكنها في النهاية أرادت أن توصلنا إلى ذلك، إلى ذلك السؤال الجوهري الذي يجب أن نسأله لأنفسنا، من الذي يقرر لنا أن نلغي كل قوانا ونرهنها له؟
المتعة في شكل فلسفة تريد الواقع
قدم طاقم عمل (مجرد؟ لا أكثر) عملاً ممتعاً بالأساس، عبر لعبة جسدية لممثلين يبدون مقتدرين تماماً ومتحكمين بأجسادهم، عبر خيال خصب قادر على الإدهاش في كل مرة، وقادر على التجريب في كل مرة، وقادر على شحن صوره بدلالات متنوعة ومختلفة هو خيال مخرج العمل الجميل عقيل الخميس، ولكنهم أيضاً قدموا عملاً إشكالياً بامتياز، من حيث موضوعه، عمل يبحث في أشدّ الأسئلة الفلسفية حساسية في منطقتنا في الوقت الراهن، وهو سؤال برغم هذا الشكل الفلسفي إلا أنه سؤال حياتي ومعيشي يدخل في أخصّ مناطق الإنسان، ولم يكتفوا بتقديم هذا السؤال وطرحه، بل قدموا معالجة ما لهذا السؤال، معالجة لا تريد فقط أن تكتفي بطرح الجواب أو بطرح احتماله، ولكنها تريد أن تتفعل تلك المعالجة عبر (إخراس العرض) كما أشار لذلك مخرج العمل في الندوة التي أقيمت بعد العمل، وأرى أن إخراس العمل لم يكن إخراساً بقدر ما هو أخراس ما خلف العمل ليقول هو ما يريد أن يقوله.
لن يمكننا أبداً أن نعرف أي جهد بذله أولئك الممثلون على الخشبة ليبدو بكل هذا التآلف، ليكونوا بهذا القدر من الإلتزام والحرفية، لن يمكننا أن نعرف أي جهد بذله الجميع في عرض فرقتي أمواج والنورس من القطيف، ليكونو صناع جمال حقيقي كهذا الذي قدموه لنا في الليلة الثانية من ليالي مهرجان أوال المسرحي السادس، ليس لشيء سوى لأن معرفة ذلك كله تتطلب أن نفتح الباب نحن أيضاً وأن ندخل فيه، باب المغامرة الذي يفضي إلى المعرفة التي تفضي إلى التجربة التي تفضي إلى البحث الذي يفضي إلى الطمأنينة القلقة التي تفضي إلى الدخول في مغامرة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق