By: Pnina Evental |
في تاريخنا العربي مع الحداثة كثير من الشواهد على الإنعطافات الحادة في الأفكار، كثير من المثقفين والمبدعين شهدت حياتهم الفكرية تحولات حادة قد لا يمكن فهمها إلا ضمن السياق العام للمشهد الثقافي العربي بشكل عام، كثير من المثقفين والمبدعين تجدهم إسلاميون في البداية، يتحولون إلى يساريين ثم فجأة تراهم تحولوا إلى الليبرالية، ثم فجأة تراهم نكصوا عن كل شيء وعادوا للإسلامية، دون مبررات فكرية كافية، فتجد أن هذه التحولات ليست قائمة أبداً على عملية بحث حقيقي بقدر ما هي قائمة على سير الأحداث في حياة المثقف الشخصية وحسب، بالتأكيد يساعد على هذا طبيعة شخصية المبدع (اللا مطمئنة) ولكنها في عالمنا العربي لا تأتي نتيجة لهذا بقدر ما تأتي نتيجة لخلل جوهري في طبيعة علاقتنا بالأفكار، فهي طبيعة (تسليمية) غير متغيّرة، فهي إما أن تستمر كما هي أو أنها تنعطف فجأة ودون مسوّغات مسبقة.
بل يمكننا أيضاً وصف المشهد ككل بهذا الوصف، فمشهدنا الثقافي العربي ليسَ ثابتاً فكرياً بحيث يكون قادراً على الإضافة والإضافة عليها، إنما هو كما طبيعة المثقفين متحوّل من جيل لآخر، وكل جيل يتنكّر تماماً للجيل السابق، ليس عن نقاش حقيقي وحالة فهم واعية، بقدر ما هو رغبة بالاختلاف والانفلات أولاً، ومحاولة لتقمص (آخر) ثانياً، فأكثر المشاريع الثقافية الحداثية العربية ليست سوى نسخ مشوّهة عن تلك المشاريع الغربية التي جاءت نتيجة بحث حقيقي واشتغال عميق. فما هي حقاً أسباب هذه الإنعطافات الحادة في التفكير لدى المثقف العربي والمشهد الثقافي العربي.
ربما يمكننا القول بداية أن أزمة المثقف العربي راهناً تبرز دائماً لدى اصطدامه بالحداثة، وهكذا أيضاً يمكننا أن ننطلق من هذه الزاوية لاستقراء أسباب حالة اللا طمأنينة الفكرية التي يعيشها المثقف العربي، فهو منذ بداية تخليه عن الفكر الذي أنتجه وهو عادة الفكر الديني، يبحث عن فكر بديل، قادر على الإجابة عن أسئلته المؤرقة، لكن الإشكالية تكمن غالباً في أن تخلي المثقف عن الفكر الديني أو اعتناقه أفكار أخرى (لا دينية) هو نتاج هذه الصدمة غالباً، إنه رد فعل أولاً على تحفظ وانغلاق الفكر الديني، ثم حالة اندهاش فانغماس في الأفكار المقابلة له. فالمثقف العربي الخارج من وعي الفكر الديني يرى بوضوح أزمة الفكر الديني المنغلق والقابض والمسيّر لكافة قناعات أفراده باتجاهات محدد، ويتشكل من خلال أزمات رفضه الأولية الذاتية والمتكتمة لهذا التفكير باتجاه مغادرة هذا السجن، إذ طبيعة شخصية المثقف الباحثة تساعده دائماً على التخلي عن ذلك الفكر (المتعصب) الذي ينتجه الفكر الديني غالباً.
وحالة (رد الفعل) عادة لا تنتج فعل حقيقي مبني على عمل واشتغال فكري، بقدر ما تنتج حالة (عصبية) مبنية على مشاعر وعواطف تجاه الفكرة، لا حالة بحث في الفكرة ذاتها، فالمثقف يرفض الفكر الديني أول ما ينسلخ عنه لا نتيجة قناعة صادرة عن بحث ذهني، ولكنه رفض صادر عن مشاعره تجاه الدين الذي سبب له شخصياً كثير من (التغييب) أو (المصادرة) سواء في الجوانب الفكرية أو في الجوانب الإجتماعية، وحين تبنى أفعالنا على مثل هذا فإنها عادة تكون هشة من الداخل رغم قسوتها من الخارج، إنها تحمي هشاشتها الداخلية بقشرة صلبة من الهجوم على الدين وكل ما هو مقدس لدى المجتمع، ولكن حين تتم المناقشة في العمق تجد فعلاً خواء كثير من المثقفين، وعدم قدرتهم على الدفاع عن تلك الأفكار التي يتبنونها. فهم لم يخرجوا تماماً من نسق التفكير عبر المقدس، لأنهم غادروا الفكر التقديسي الديني ليدخلوا في تقديس أسماء أخرى حداثية، ومفاهيم أخرى حداثية، تم استيرادها من الخارج، إنهم حداثيون ولكنهم من الداخل يشتغلون بذات النسق الديني، الذي يجعل كل ما عداه خطأ وضلال.
ولو قسنا الحالة ذاتها بالمشهد الثقافي ككل سنجد ذات الإشكالية، فالمشهد الثقافي برغم امتداده الطويل زمنياً، إلا أنه لم ينتج للآن حالة مستقرة من الفهم الدقيق للحداثة بالمعنى الذي يشكل بناء على بناء، إنها لدى النظر مجرد حالات متفرقة في أجيال مختلفة، لم تستطع للآن التأسيس الذهني الجاد لمشهد حداثي حقيقي، وما يعمّق هذا الفهم رؤية المشهد الثقافي المعزول في أفراد ومؤسسات تعمل بشكل فردي، وعفوي، وغير ممنهج أو مدروس، ما يجعلنا نظن أنه حتى المشهد العام لم يستطع أن يبني أفكاره على قواعد صلبة، بل على (مشاعر) جمعية باتجاه الأفكار وحسب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق