المبدع بين لحظة العزلة ولحظة الإدهاش

By: Dina Bova


منذ أن يعي المبدع لحظة تمايزه، لحظة اختلافه عن الآخرين، وهو يجد نفسه بين أمرين متناقضين، أولهما شعوره بأن مختلف ومختفٍ.. أو ما يدعى بالعزلة الداخلية، وفيها ربما تقع لحظات قلقه الخاص وأسئلته الخاصة، وثانيهما شعوره بأنه ملحوظ ومدهش، وفيها ربما تقع لحظات قدراته وطاقاته وتقنياته في مجاله الإبداعي، الأمرين برغم تناقضهما إلا أنهما يشكلان شخصية المبدع الرئيسة، فلا مبدع دون موضوع خاص، كما لا مبدع دون طاقات خاصة، إلى هنا والأمر عادي ومألوف، غير أن الأمر لدينا في ثقافتنا العربية (الراهنة) يتخذ يتخذ شكلاً آخر، فنحن نتربى تبعاً لظروف التاريخ والثقافة والبيئة والتربية والتعليم على أن الطاقة الخاصة تأتي قبل الموضوع، فالطاقة الخاصة هي المقدمة، وقدرة المبدع على الإدهاش هي الأساس لا الموضوع، ولذلك فيصير المتنبي هو الرمز الحقيقي للشعر العربي مثلاً.. بالرغم مما في شعره من عنصرية أحياناً وتكبر أحيان أخرى، وقومية أحيان ثالثة، بل وتحفظ هذه الأبيات وتردد وكأنها مثال للإبداع، والمتنبي ليس سوى مثال، فنحن نفرد باباً من أبواب الشعر، وندعوه بالهجاء وآخر للفخر وثالث للحماسة، وغيرها.. أي أننا نقسم أبواب الشعر ونختار أجودها بحسب قدرتها على (الإدهاش) متجاهلين تماماً الموضوعات ومصداقيتها، وقدرتها على الكشف.. كشعر التأمل أو شعر الفضح، أو شعر الكشف، أو غيرها.. تلك التي تهتم بموضوعة الإنسان من الداخل.
طبعاً الأمر كان مبرراً في الماضي، فلا نستطيع محاسبة المتنبي على أخطاء نسق كان يعيش بهذه الطريقة، ولكن هل اختلفت نظرتنا للشعر.. هل اختلفت نظرتنا للإبداع بدلاً من حيث كونه إدهاشاً، إلى كونه كشفاً داخلياً، أي من حيث تقديس لحظة الطاقة الخاصة، إلى لحظة الاعتراف بأهمية لحظة العزلة الداخلية الخاصة؟ لا يبدو ذلك، حتى في أكثر النماذج الشعرية حداثوية، طبعاً تخلص شعراء الحداثة من كثير من تبعات زمن كان ينظر للدهشة كأساس، ولكنهم لم يصلوا بعد أو فلنقل كثير منهم لم يصل بعد إلى القصيدة التي تنظر للنص على أساس عزلته الداخلية، فما يزال كثيرون ينظرون إلى لحظة الإدهاش كأساس للقصيدة، ولتقييمها، ويمكننا هنا الإشارة إلى أمر مهم، فلحظة الإدهاش هي ليست لحظة داخلية إنها دائماً تتطلب طرفين، مُدهش.. ومندهش، بينما لا تطلب لحظة العزلة الداخلية ذلك، ولا تفصح عن أهميته.
ولدى النظر لكيفية تأثير فكرة الإدهاش على بناء النص أولاً وعلى نظرتنا للشعر ثانياً.. سنرى في الأول إنها تجعلنا نكتب النص بنفس الناظم.. الصانع، وفي الثانية تجعلنا لا نفكر في أزمة الصناعة في النص، ففكرة الإدهاش تجعلنا ننظر للشعر على أنه وسيلة لقول ما نريد، بينما فكرة العزلة تجعلنا ننظر للشعر على أنه وسيلة للتفكير فيما نريد. إننا في الأولى نصقل سلاحنا لكي يكون قاطعاً، بينما في الثانية نحن نفكر في جدوى الحرب أساساً، من هنا فإن فكرة الإدهاش هي فكرة داخلة أساساً في تكويننا الإبداعي، ويجب أن نتعامل مع هذا الأمر بصدق، حين النظر لمسببات ذلك، فتاريخنا مبني على فكرة الإدهاش، لنراجع حتى كتب التراث وكتب التاريخ، لنرى كيف تحفل نصوصنا وتدويناتنا بالمدهش (اللامعقول) إن لمحة بسيطة تؤكد لنا كيف فعلت الرغبة في الإدهاش بنا، ليس في الشعر فقط، كثير من المؤرخين حاولوا أن يسقطوا الكثير من الروايات التاريخية سواء الأدبية أو السياسية أو الاجتماعية التي كتبت بدافع الإدهاش فقط، وتم تسويقها على أنها حقائق فيما بعد. ثم بعد ذلك أنظر كيف يقيم نقادنا القدامى الأدب، لترى كيف كان المعنى الجديد- والمعنى هنا لا يقصد به فكرة النص أو مستوى كشفه، بقدر ما يقصد به كيفية صياغة الفكرة في شكل جديد – هو الهم الأكبر لهم، كيف أن ابتكار الصورة المدهشة هو الهاجس الأكبر، أما معطيات مثل قيمة الكشف، وحتى القيمة الأخلاقية فإنها تأتي تالياً دائماً.
هذا المستوى من الفهم وصل إلينا، وتم ترسيخه عبر ثقافة متناقلة، تلبست أخيراً لباس (التعليم النظامي) فبالنظر لكتب التعليم تجد كيف أن الإدهاش هو أحد أكبر الهواجس لدى واضعي الكتب التعليمية، يأتي تالياً عبر الهاجس الأخلاقي (الديني) و(العرفي).
حسناً.. رأينا كيف أثرت فكرة الدهشة على الشعر نفسه، ولكن كيف يمكن أن تؤثر فكرة الدهشة على الشاعر.. على المبدع بشكل عام، إن فكرة الدهشة النابعة من الطاقة الخاصة، تعطي الشاعر (المبدع) دائماً شعوراً بالتفوق، إنه يرى أنه يقدم ما لا يستطيع غيره تقديمه، وينمي المجتمع (ذي نفس الفهم لعملية الإبداع النابعة من لحظة الطاقة الخاصة) هذه القيمة في المبدع نفسه أو في أفراد المجتمع، ربما لهذا ونعود للمتنبي، تم تضخيم المتنبي بالدرجة التي جعلته يعتقد هذا في نفسه، بل ويظن أن بيتاً يقوله (قائم على الإدهاش) أهم من النصر في حرب مثلاً، وذات الفكرة ما تزال قائمة إلى الآن، وما نزال الآن ننظر للمتنبي هكذا، وربما كثيرون سيثورون في وجهي لأني أقول كلاماً كهذا في حق المتنبي، كل هذا نتيجة لهذه النظرة، وعلاجها يحتاج إلى وقت طويل ومران وصبر للأفراد والمجتمعات لتغير أفكارها باتجاه قضايا مثل هذه.
ومجتمع ما يزال ينظر للمتنبي بهذا التقديس، سيظل أيضاً ينظر للشعراء (المدهشين) بذات التقديس، وسيظل ينفخهم أيضاً ليحولهم إلى كائنات تعتقد في نفسها (المالك الوحيد لحق الفرز النوعي) كما يذهب إلى ذلك حسين فخر في مقاله الذي سبق ونشرته رؤى في عدد سابق، إن أغلب الأمراض التي ذكرها فخر في مقاله مرجعها هذه النظرة للإبداع على أنه الدهشة أولاً ثم تالياً كل ما يترتب على ذلك سواء على المبدع أو العملية الإبداعية أو المجتمع بشكل عام.

ليست هناك تعليقات: