حول الحرية


هل أنت ما تؤمن به؟ أم ما تقوله وتفعله؟ ما الذي يحدد صورتك حقاً؟ هل هو إيمانك بأفكار وقناعات معينة، أم ممارستك لهذا الإيمان؟
الواضح -وهو الغامض كذلك؛ للأسف- أنه لا شيء من هذا في الوقت الراهن، فهذا زمن لا ما تؤمن به يحدد صورتك، ولا ممارستك تفعل، لفرط التباس الصور ببعضها ما عاد أحد يتطلع نحو الحقيقة، الكل يظن أن ليس ثمة حقيقة، ولذا فعليه أن يكون خادعاً مخدوعاً، واهماً متوهما، طوال الوقت، لا شيء يمكن الثبات عليه، فما تثبت عليه الآن، تستطيع اللجوء لضده بعد لحظات.
القاعدة الأساسية هنا هي هذا الاختلال، الرجرجة، عدم الاتزان، وكل ذلك باسم الحرية التي هي عنوان واسع يفترض به أن لا يكون هدفاً تاماً بحد ذاته، فهي سبيل للمعرفة، وسبيل للتطور وليست هدفاً محضاً، لكن باسمها يمكنك أن تكون الشيء ونقيضه، الفكرة ومضادها، باسمها يمكنك أن تكسر القيمة وتتمسك بها، أن تذيب المفهوم وتقف عليه، لا يمكن لأحد إيقافك أو إيقاف سواك، على جميعنا أن نكون أحراراً، في كل ما نستطيعه، الحرية هي الهدف، هي القيمة العليا، لنجعل هذا العالم أكثر جنوناً علينا أن نكون متناقضين، لنثبت حريتنا علينا أن نكون في طرفي الجنون.
لأننا تفتقد الحرية في مجالات شتى، فنحن نمارس المتاح منها بمبالغة وشذوذ، نمارسها من أجلها هي، من أجل إثبات أننا نمارسها، الحرية ليست شكلاً واحداً حتى ضمن التقسيمات الموجودة لها، هي تتنوع بتنوع ما تسعى له. والاختلال الحقيقي، هو أن تكون الحرية هدفاً في حد ذاتها، أي الرغبة في الفوضى وعدم الانتظام والاتساق وترويج الخطأ أو القبول به.
فالشاب المراهق يغامر بحياته وحيوات الآخرين في الشارع ليمارس هذه الحرية الوهمية والفوضوية، والمثقف يلبس المفاهيم ليوسع هذه الحرية الوهمية غير الخاضعة للمنهج، والرجل يمعن في إهانة زوجته ليمارس هذه الحرية الوهمية غير المرتبطة بقوانين.
لكن، جميعنا نعرف أننا لسنا أحراراً، وأن ممارساتنا وأقوالنا إنما هي مجموعة خيارات محددة يفرضها علينا الواقع والمجتمع والسلطة والنمط والنسق. ولكننا نصرّ على التعامي، ولكي نمنح أنفسنا وهم الحرية، نمارسها ضمن المتاح من الخيارات بهذا الشبق العبثي المجنون، بهذا التضاد المريع والملتبس. بهذا القدر المهول من الذاتية والانعزال، وكذلك بهذا القدر المرعب من التطرف في الخيارات، والتطرف في التضاد.
أجل.. لا حرية لدينا، لكن علينا أن نعرف لماذا نريد هذه الحرية وما هي حدودها. قبل الدفاع عنها وتثبيتها كإله لا يمس.
إنها حرية مخيفة، تلك التي تجعل العالم مخدراً، مهلوساً، فاقداً للوعي، حرية تمر مثل الماء في الجسد الواحد لتذيبه، حرية التفتت والتشظي، حرية تجعلنا جميعاً آلات لخدمتها.
وأكثر ما هو مرعب فيها أنها تفقدنا القدرة على مقاومتها، نحن على كراسٍ معزولة، كل واحد فينا يشاهد تلفازاً عظيماً، يتفرج إما بسخرية أو بلا مبالاة، على كل ما يجري في العالم، ثمة ثقة وهمية في هذه العزلة، ثقة وهمية تمنحها تلك الحرية الوهمية، وهذه الثقة إما يائسة للحد الذي تجعلنا لا نحرك ساكناً، أو متفائلة للقدر الذي يجعلنا راضين عما يجري.
ليس الخروج من هذا الوهم سهلاً، خصوصاً أنه يحتاج لمرايا صادقة وصادمة. ترينا ما نحن عليه حقيقة. وهذا ليس متوفراً في الوقت الراهن.. فأغلب المرايا مزيفة، أغلبها صورة واحدة لا تتغير.. صورة مختلة وغير واضحة، لهذا الجنون الذي لا يحدّ.

ليست هناك تعليقات: