بيروت (رويترز)
من جورج جحا
تتسم قصائد مجموعة "السماء .. تنظف منديلها البرتقالي" للشاعر البحريني مهدي سلمان بنزعة وصفية تأتي في موسقة دائمة تبدو واحدة غالبا وبمجازات ومجردات وصور تصاغ باتقان.
الا ان هذه النزعة الوصفية تركز في كثير من القصائد على تقديم الفكري في صيغ وصور مجازية ورمزية تعوزها الحرارة احيانا لكن قدرة الشاعر على " الموسقة" -وان في ما يبدو خطا واحدا- تعوض عن ميكانيكية او فلنقل " عقلانية" الموصوف.
وليس من الضروري ان تسيطر هذه العقلانية او المنطقية على المادة الشعرية عندما تكون السمة الغالبة على هذه المادة سمة ذهنية بل اننا كثيرا ما يواجهنا الحال نفسه حيث تكون المادة "نفسية" فنجدها تنقل الينا -الا في حالات قليلة- بتلك المنطقية التي تبدو احيانا "احصائية" من حيث التنبه الى التفاصيل وفيها شيء من البرودة على جمال صورها ومجازاتها وتلك الموسيقى الدائمة كأنها لا تتغير كثيرا.
ولعل افضل حالات قصائد مهدي سلمان هي تلك التي تجمع تلك الصفات المذكورة او قسما منها الى جانب دفء مرافق او دافق حينا يذيب بعضا من منطقية صورها ومجازاتها وتقريريتها.
مجموعة مهدي سلمان الشعرية هذه وهي الثالثة منذ 2007 اشتملت على ما لا يقل عن 29 قصيدة متعددة الاوزان والقوافي ادرجت تحت ثلاثة عناوين رئيسية. وقد جاءت في 100 صفحة متوسطة القطع وبلوحة غلاف للفنان التشكيلي البحريني جعفر العريبي. صدرت المجموعة عن "مسعى" في الكويت وعن "الدار العربية للعلوم ناشرون " في بيروت.
لعل الاهداء الذي استهل به الشاعر المجموعة يشير ببلاغة الى كثير مما فيها. قال الشاعر -مع خطأ لغوي او خطأ لغوي متعمد لاسباب بقيت غير مفهومة- "اليك اوميء/ وناحيتك اشير../ اعد قلوبي واحدا واحدا فلا ارى فيهم سواك."
في القصيدة الاولى "تتفقدها..تستريب به" يقول الشاعر في دفق من المجردات والمجازات "ايقظته وعيناهما دهشتان/ تهتز في يدها كومة الاسئلة../ اي ذنب تراني اقترفت/ لتسكنني هذه الجمل المستديرة."
وينتقل الى القول "عمري على قدر عيني/ والضوء يخرج من كوة الوقت/ ملتبسا بالنهايات. والصمت صنارتي/ لاصطياد الصباحات ذات الاحاديث/ ذات الحكايا الخفيفة كالمطر المتردد../ ولاصطياد اغان مهددة للرحيل المفاجيء/ او لاصطياد اللغات الحميمة والمقفلة..."
في قصيدة "مع انثى..ومن دونها" وعلى رغم موحيات بداية القصيدة من غوص عاطفي الى "الداخل" ووعدها بدفء حار يعود الشاعر وان بقدرة وتصوير وموسقة الى شيء من التقريرية العقلية او المنطقية التي ترافق قصائده يضاف اليها هنا خيط صارخ من "الخطابية" التقليدية نوعا ما.
يقول "مضت ولا كلمة في الروح/ لا حلم يشير لي اخرج الى منفاك/ لا وطن انفى اليه../ ..مضت../ لولا جنوني لادركت الذي ارتبكت/ فيه الحكاية/ مرغت الكلام/ على نومي/ مضت وأنا/ قوم سكارى/ يمدون الضجيج على ليل/ ويبكونه سرا/ ينادونني../ هات النبيذ ولا كأس لاسكبني فيه../ مضت/ ومضت..."
وفي "نوبة ليلية" يبرز مرة اخرى هذا التشديد على العملي المباشر وان كان الهدف تحويل ذلك الى رمزي. وهذا التحويل يعوزه قدر من "الصهر" اي صهر الفكرة شعوريا وعاطفيا ليتحول الرمز الى امر موح عوضا عن ان يأتي تقريريا شديد الوضوح.
يقول مهدي سلمان "في المتحف المخبؤ في اعماقها/ ليل عجوز يصلح الساعات/ يجمع ما تبقى من عقاربها/ بجيب قميصه/ وينظف الذكرى/ عجوز طيب.. يمشي على اطراف دهشتها/ وحيدا حاملا فانوسه الشعري/ يخبو قلبه حينا وأحيانا/ اذا اذكاه يشتعل الكلام بها/ فتسكب في الظلام قصيدة او دمعتين..."
في قصائد اخرى نجد ذوبانا لهذه التقريرية والمنطقية فتحولها شحنات عاطفية الى حالات فيها جمال وايحاء فلا تعود موسيقاها وصورها ومجازاتها ورموزها اقرب الى معدنية من نوع معدن "الالومنيوم" الذي يكون براقا مصقولا وقد يكون جميلا.. لكنه بارد غالبا.
من هذه القصائد الجميلة اثنتان الاولى هي "برعم النار" التي يقول فيها "انما انتظري../ من يلوم الغريب على حزنه/ وارتباك قناديله في الشتاء.../ كان يوشك ان يستريح/ ويقذف ما ظل من ورد ايامه في الهواء/ في يديه كتاب قديم عن الحرب/ بين الصنوبر واللغة الذاهبة/ وتحت وسادته/ تتكسر "نظارة" لا ترى/ وسماء مؤطرة بانكساراتها الخائبة.
"من يلوم الغريب اذا ما غفا/ فوق دفتر اشعاره/ ونسى موعد الشاي والشعر/ والموت -في جيبه- والدواء."
القصيدة الدافئة الاخرى عنوانها "حديث عابر..على طاولة قصية" وفيها يقول مهدي سلمان "-اتبكين../ -لا.. لست ابكي/ تجاوزت وقت البكاء.../ -اذن لم اشعر اني غرقت../ -بماذا غرقت../ -هذا الذي لا اراه ولكنني اتذكره/ -ما هو../ -الوقت ../ هذا الجدار القديم الذي نسيت فيه عاشقة حلمها/ وبريق خواتمها/.. شارع ضائع في الشوارع/ يسأل عن نفسه/ يتحرى دبيب محبين/ يختلسان له/ كلما هتفت جمرة في المساء/ احبك ..."
مهدي سلمان شاعر ذو نبض.. وخسارة ان يقع نبضه في البرودة مهما كانت الحجة والغاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق