الزمن الذي من لحم ودم



مع عينيه ومع موسيقاه كنتُ في مواجهة الغامض، مع روحه وابتسامته كنتُ في عرضة الحياة، مع ذاكرته ومع شروده كنتُ في قبضة زمن لا يمكن القبض عليه لأنه من لحمٍ ودم، هذا الآن بالتحديد ما أفتقده، هذا ما أوجعني ساعة سمعت نبأ وفاته، الفنان الراحل مجيد مرهون ليس موسيقى فقط، سنستمع لها ساعة نشعر بفقده، كما أنه ليس مناضلاً عادياً يمكننا تذكّر بطولاته أو لحظات خذلانه، أو قراءتها في كتاب.
قبل هذا النبأ كنتُ أستمتع وأنا أقرأ في الحوار الذي أجراه مع رؤى عام 2006م حين كان يقول لمن يسأله كتابة مذكراته (استمعوا إلى موسيقاي.. تلك هي مذكراتي) لكنني الآن سأختلف معه، ليس لأني أريد قراءة مذكراته، ولكن لأني أريد القبض على تلك اللحظة من اللحم والدم، الإمساك بتلك الإبتسامة التي كانت أكثر حرية من طائر، وأشدّ رسوخاً من صخر، لمس ذلك الشرود الأخاذ حين يشعل سيجارته وتلتمع في عينيه جملة موسيقية لا يمكن أن تعزف، ذلك القرب الذي يجعلك وأنت معه تشعر بأنك فيه، تدخل إلى عوالمه دون أن تعرف منها الكثير، لكنك تدخلها مضببة ومغيمة، ولكنها هي تلك، كما يرى إليها هو، كما لا يريد الإفصاح عنها، كما يريدك أن تشعرها، ربما بحسّ الموسيقي الذي لا يؤمن بالكلمات كثيراً، يؤمن أكثر بذلك الوحي الذي يطرق على بوابات الروح.
والآن تحديداً أيضاً أفهم أنه كان يقول ذلك بحس الموسيقى لا بحسّ الموسيقي، مجيد مرهون كان موسيقى خالصة، وهكذا كان يريد أن يفهم، هكذا كان يريد أن نشعر به، ربما أحياناً يسايرنا في ألعاب الكلام التي نلعبها، لكنه أبداً كان يعرف أنها مجرد مدخل، مدخل للوصول إلى الأعمق.. تلك اللحظة التي تصطدم فيها الأشياء والأفكار والحيوات لتصدر رنيناً مدهشاً هو الموسيقى، ذلك الصمت الذي بين خفقة قلب وقلب، بين تنهيدة روحٍ وروح، ذلك الذي لا يحتاج إلى الكثير ليُعرف، ولكنها يحتاج إلى الحياة كلها ليحسّ.
سأبتسم وأنا أتذكرك حين أسمع صوتاً هنا أو هناك، حين أشعر بالصمت يملأ كوناً ما لم يسكن بعد، سأتذكر وأنت تتحدث عن (أحلام الجزيرة) وصفك لها بأنها أحلام جميع السجناء هناك (سياسيين وجناة، سراق ودعّار..) سأعرف لا كما كنتُ أتوقع سابقاً ماذا تعني، سأعرفُ ولن أستطيع أن أشرح هذه المعرفة، سأحتفظ بها داخلي متأكداً أنها ستخرج ذات يوم لا على شكل محدد، لا على هيئة معينة، ولكنها ستخرج وساعتها سأدري أنها هي، علّني أقدر كما قدرت أن أخلق لي لحظاتي التي من لحم ودم أيضاً.. كما فعلت أنت.. كما فعلتَ بي.

ليست هناك تعليقات: