مهدي سلمان
إنها لا تغني للطبيعة، إنها تعزفُ لحنها بها، هذا هو العالمة الفارقة التي يمكن أن نلاحظها في مجموعة (كونشيرتو.. نحو جهة مأهولة بالسلام) للشاعرة البحرينية جنان العود، وهي المجموعة الأولى لها، والصادرة عن دار الدوسري للثقافة 2012م، فالشاعرة التي تحتفي في هذه المجموعة بكل ما حولها، مثل الذي يحاول اكتشاف العالم، ويحاول إيجاد تعاريف خاصة به له ولأشيائه، تحاول أيضاً أن لا تحصر نفسها في هذا الغناء الاحتفاء، شيئاً فشيئاً تدخل الشاعرة نحو الغابة الكونية بكل كائناتها، وتصيّرها أدوات لقصيدتها، إنها بعد رحلة كشف العالم القصيرة، تحاول بناء ذاتها وقصيدتها من خلال كل هذه الكائنات التي تعرفت عليها، والتي عرفّتها.
بالرغم من اعتقادي أن الرحلة كانت قصيرة، لكني أعرف أن ما وراء النصوص هو أبعد من النصوص ذاتها، فحالة (التعاريف) التي كانت حاضرة في عدد من النصوص في المجموعة (عشرون صلاة فإلا، نيسان يرتدي الماء، أقراط، خبز يكابر.. وغيرها) والتي يمكن أن يرى فيها محاولة لإيجاد تعريف للأشياء مختلف ومغاير، ويخص الشاعرة نفسها، ويمكن أيضاً أن يرى فيه محاولة (طفلية) للتعرف على الكائنات المحيطة والفضاءات القريبة وبناء علاقة بها، تتداخل بعد ذلك في الديوان (ليس بطريقة تدرجية من ناحية تسلسل النصوص، بل من خلال قراءة المجموعة ككل) في بنية القصيدة ذاتها، فما كان معرّفاً في قصيدة، هو الآن أداة للتعرّف على شيء آخر، وربما يكون هذا الآخر أبعد من أن يعرّف ببساطة الوصف أو بساطة التشبيه، بل يحتاج إلى تفكير تأملي كان حاضراً في بعض النصوص، وإن بدرجة أقل.
يمكن أن نستشهد على ما نقول بنص مثل (كم أن شهيتي عارمة.. (...) لشمس تندلع في عتمتي، تعترض حريتي فلا أتذمر) من قصيدة (لو أن لي بحر) فالشمس التي كانت في نص سابق (عشرون صلاة فإلا) معرّفاً تحتاج إلى مفردات سواها لتكشف بها الشاعرة عنها، هي الآن أداة للتعرف على الأشياء، وهي هنا في هذا النص (مثلاً) لا تعرّف الشيء الواضح، عبر التشبيه أو الوصف، بل هي تعرّف الخفي من الأمور، تلك الرغبة الجامحة التي تجتاح الكائن المعزول في ألمه للصراخ، للكشف، للوضوح، والتي لا يدرك كيف يصل إليها.
كونشيرتو
نعرف أن الكونشيرتو هو المؤلف الموسيقي المخصص لآلة أو أكثر، تكون فيه الفرقة الموسيقية خلفية للجهد الأساسي الذي تبذله هذه الآلة (تأتي كلمة كونشيرتو من الكلمة اللاتينية (كنسرتار) وتعني الكفاح) لكننا في مجموعة (كونشيرتو) جنان العود لسنا أبداً في هذا النوع من الموسيقى، لأن العود لا تتكئ في ديوانها على آلة وحيدة، ولا حتى آلتين أو ثلاث، إنها (وربما هذا بحكم أنها المجموعة الأولى لها) تحاول التجريب في كل ناحية، وتستخدم الأدوات كلها أو الآلات جميعاً، للوصول إلى الآلة الأم، الأساسية، أي آلة النفس البشرية التي تصدر عن نفس الشاعرة ذاتها، غير أن حضور الكونشيرتو في الديوان يأتي من خلال التقسيمات الخفية للمجموعة، أي ما يشبه أجزاء الكونشيرتو الثلاثة:
الأول: وهو الأطول والسريع، حيث تسعى الشاعرة للتعريف المباشر بالأشياء، فتكون القصائد فيه، ومضات سريعة مكونة من أجزاء مختلفة، لكن يمكن اعتبار هذا الجزء كأنه محاولة أولى للوصول ناحية الشعر عبر التعريف المباشر للكون، لأشيائه وكائناته، بالتأكيد هذا القسم موزّع على الديوان ككل، لكن يمكننا أن نلحظه أينما وقعنا عليه، وفيه لا تحاول الشاعرة بذل الجهد للاقتراب نحو داخلها، بقدر ما هي تكشف هذا الداخل، بشيء من العفوية عبر الاقتراب من كائنات هذا العالم.
تقول في أحد النصوص:
(للعصافير: حرية مزيفة وخوف وشيك من أي شيء
لسلطعون البحر: هوس الرقص الغربي على أنغام الموج)
ولنر كيف تقدّم الشاعرة اقتراحاتها للأشياء، تعريفاتها لها مثلما لو أنها تحاول أن تضع كل شيء في إطار خاص بها، وكأنها تخلق قاموسها الخاص بها، ولكنها في الوقت ذاته، تبتعد كثيراً عن التعمّق والحفر في الذات، في نصوص هذا الجزء بالذات، لأنها بالرغم من الحالة الشعرية الموجودة بحكم الألعاب اللغوية أو التخييلية، لا يمكن أن تمسّ المواضيع بقوة حقيقية، في كلمات موجزة، غير أن هذه الحالة ما هي إلا تعرّف أولي على الأشياء، يمكننا تجاوزه مع الشاعرة، في الجزء التالي.
الثاني: وهو اللحن العاطفي الهادئ في الكونشيرتو، ولدى جنان العود هو نصوص (قوارب ورقية) الأخيرة التي ختمت بها مجموعتها، إنها نصوص ذاتية لكنها أيضاً ليست موغلة في ذاتيتها، لأن حضور الغنائية الشديدة في هذه النصوص يمنعها من التحول نحو الذاتية المطلقة، يعيقها عن اكتشاف حقيقتها، لكن أيضاً هذا ليس بالمهم إن عرفنا أن الحالة الثالثة التي ستلي هي التي ستعوّض عن هذا عبر البحث الذاتي المحض في الجزء الثالث من الديوان.
تقول في نص (قوارب ورقية):
(لولا الإشارات المرورية لما تأملنا
***
ألهذا كلما هممت بخصلة شعري انتفض الفراش في حديقتي؟)
وهنا تحضر الحالة الرومانسية الشعرية أيضاً، بوضوح جميل، ولا يمكننا إلا الإشادة بنصوص هذا الجزء، غير أننا فقط لا يمكننا القبض على روح الشعر في مثل هذه النصوص، إننا يمكن فقط أن نقبض على طاقات الشاعرة، على قدرتها الأدائية، وامتيازاتها، لكن الحالة الرومانسية بطبعها، تفقدنا الخيط الشفاف الذي يجب أن يتمسك به الشاعر، حين كتابته النص، وهي (روحه) وروحه هنا لا تعني قلبه فقط، أو عقله فقط، إنها حالة ممتزجة، بين الحالين، كيان الشاعر القلق، وأسئلته، وانفعالاته، وأعتقد أن ذلك يحضر في نصوص الجزء الأخير.
الثالث: عادة يأتي في الكونشيرتو بأسلوب اللحن الراقص السريع، والذي يبرز فيه العازف المنفرد قدراته، لكنه لدى (العود) مختلف قليلاً، فنصوص هذا الجزء ليست سريعة ولا راقصة، ولكنها بالتأكيد تبرز الروح الشاعرة لديها، نصوص مثل نص (وجل) أو (للمرة الأولى) أو (ذات) تؤكد على حالة التماهي الشعرية، بين الذات الشاعرة والنص، فالنص ليس تعليقاً على حدث أو وصفاً له، بقدر ما هو معايشة له، أو مساءلته، بحثٌ فيه، واكتشافٌ لأثره، تقول الشاعرة في نص وجل:
يشحّ حليبها الدنيا، إذا وجل المطر
إذا تجاسرت الشمس فأغمضت عينيك لوهلة..
في هذه النصوص، ربما تبتعد الرومانسية الشعرية قليلاً، والتي تحضر في نصوص الجزء الثاني (قوارب ورقية) لتحضر الفكرة، فالنصوص هنا لا تسعى نحو صنعة الشعر، إنما تسعى لروحه، وهو الأهم، أن يبتعد الشاعر قليلاً (كثيراً) عن التشبيه والوصف واللعب باللغة أو معها، ليذهب في أغواره العميقة، ذاته الأبعد، ليحاول معرفتها، وضع المرآة عليها، إشعالها بالضوء.
ويكتمل الكونشيرتو بهذا الجزء، وربما لا تكون العود متقصدة لهذا التقسيم، غير أنه ولكون كونشيرتو هي مجموعتها الأولى، فقد صادف أن كانت المجموعة مقسمة تماماً بهذا التقسيم كما نقترح.
ختاماً يمكن القول أن العود تقدم بهذا الديوان تجربة تعد بشيء في قصيدة النثر البحرينية، وأعتقد أنها إن هي أقدمت على طباعة مجموعة جديدة، فلن تكون (كونشيرتو) مثل هذا، بل ستتركز تجربتها أكثر، وستقدم ما هو أبعد من العالم، وأقرب من ذاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق