هنّ كنّ لنا أمهاتٍ



1
ثلاثُ حروبٍ وأكثر يضحكن خلفَ نوافذنا
ويعلّقنَ بين الشفاهِ الغليظاتِ ورداً من القطنِ يشبهُ إحساسَنا بالفراغ.
ويشبهُ ضحكةَ أطفالِنا إذ يموتون
يخمشنَ دهشتَنا، ويلمّعن خشيتَنا.

في الثلاثين من عمرِهنّ، ويلبسنَ فوقَ فساتينِ سهرتِهنّ الكئيبةِ
(جينزَ) الصدى، ونقاباً من الجلدِ.
لا يتحدثن، لا يلتفتنَ لنا؛ حين نغلقُ من دونِهن الستائرْ.
ثلاثُ حروبٍ ضرائر،

ثلاثُ حروبٍ حزيناتْ.

يجلسن متشحاتٍ بصمتِ
ويطبخنَ صمتاً أمرَّ ليُحرقنَ فيه أصابعَهن، فيصرخُ فينا الكلامُ

نتذكر أنا قبضنا بأثدائهنّ، وكنا صغاراً، وكنّ صغيراتٍ،
الآن، هنّ يلوحّن من خلفِ أعمارهنّ بحلماتهن لنا
نتذكر أنا رضعنا حليبَ الحروب، وكانت يدُ الله تضربُ في مهلٍ ظهرنا
لتُجشِّئَنا، نتقيؤه الآن، ذاك الحليب، على كتف الله.

هنّ وضعن لنا أولَ العطرِ، هنّ اللواتي يقمّطننا بالتلاواتِ
هنّ فركن لنا وجهنا المكفهر، ومشّطن أحلامنا
يا الثلاثَ حروبٍ وأكثرَ
عَلمننَا المشيَ في غابةٍ من غبارٍ، وأطلقنَ في إثرنا صدأ الآلهة
هنّ كنّ لنا أمهاتٍ، وكنا لهنّ الضحايا المعماة، كنا نهايتنا التائهة

2
ثلاثُ حروبٍ من الفحمِ
نجلسُ من حولهنّ على نضدٍ واسعٍ، ليحدثننا عن لحىً وخزت قبلةً في السماء
يموتُ سوانا، ونبقى نحملقُ في ساعةٍ خلفهنّ تشيرُ إلى ما وراء الوراء
سيأخذنا الموتُ ما بين فخذيه، تكبرُ أعمارنا،
فنرى أن لمساتهن على رأسنا؛ نبشُهنّ الترابَ لقبرٍ بلا ميّتٍ
والثلاث الحروب وأكثر..
يدفنّ موتى ويضحكن من خلفِ أعمارنا
ويطرحنَ موتى ويضحكن من خلفِ أعمارنا
وثلاثون عاماً وعمراً، يخطن ملابسنا من صدى كلماتٍ تفتتّ من حولها قصدُها
ويكفننا في الفراغ.

3
ثلاث حروبٍ وأكثر، والآن
تمسكُ واحدةٌ ذيلَ أخرى ويمشينَ في طرقٍ من حصىً خشبيٍّ
ويمددن أذرعهن ويصرخن بالذعر، يسحبننا خلفهن، ويتركننا أثراً
ليدلّ على سيرهن البطيء على جسد العالمِ
الآن
بحرٌ على يُسرِهِ يتبخرُ في ذيلهنّ المريض، وهذا زمانٌ سيأتي ويذهب
هذا زمانٌ مضى ويعودُ، وهذا زمانٌ تيبّس ما بين بين، وهذا زمانٌ تهشّم
مثلَ الزجاج، وهذا زمانٌ يسيلُ كضحكتهن على الأرضِ،
والآن
دونَ شظايا ودون انفجاراتٍ، الآن، دونَ جراحٍ وخوفٍ، ولا قصفَ،
لا شيءَ من حولنا يتهدّمُ، لا موتَ، لا دمَ، لا يدَ مبتورةً،
لا عيونَ تراقبُ حبلَ الطويّ البعيدةِ يسقطُ في عتمة الصدفةِ،
الآن، تسقطُ كتفاً على كتفٍ دولٌ، وقبائلُ، تسقط حشرجةٌ في فمٍ واسعٍ
والثلاثُ الحزينات، يدفعنَ في البحرِ شعباً معمّىً من الكلمات/ النصوص.

4
ثلاثُ حروبٍ سيتركن أرجلهن على الماءِ
يمضين فينا كأشباحٍ التبست صانعيها
وحين سنفتحُ أفواهنا كي نقولَ كلاماً عن الحرب
مثل الأفاعي سيصدر منا فحيحٌ مخيفٌ
فنسكتُ، نُطرِقُ، ثم يسيل لعابُ التحسّر
فوق الكلام.



النص في مجلة (قاب قوسين) الإلكترونية

ليست هناك تعليقات: