- يعني؟
- لا أعلم بالتحديد، أنت أخبرني.
- يعني أننا سنظل محبوسين في هذا الصمت، للأبد.. للأبد. هل فهمت؟
- لا أفهم، كيفَ يكون صمتاً وأنت تتحدث هنا؟
- أنا أتحدث من داخلك، هذا لا يُسمى صوتاً..
- مع هذا فأنا أسمعك.
- أووه.. أنت لا تسمعني، كيف أستطيع إفهامك، أنتَ لا تسمعني، أنتَ فقط، ماذا ندعو هذا؟ آه.. بلى، أنتَ فقط، تفهمني؟
- لا.. أنا أسمعك، ولكني لا أفهمك.
- لا أقصد هذا، أقصد أنك عبر ما تسميه سماعاً أنت تفهم ما أقول، لأنني أتحدث من داخلك.
- إذاً.. أنا أفهمك؟ ولكني لا أفهم ما تقول؟
- لا، أنت تفهم ما أقول بالتأكيد، فأنا لا أتحدث، أنتَ الذي تتحدث. ولا يمكن أن تقول شيئاً لا تفهمه.
- أنا أتحدث؟ وأنت من يُخرج الصوت، لكنك تفهم ما أقوله أنا، بينما أنا لا أفهم ما أقول، ومع هذا فكل هذا الضجيج، نستطيع تسميته صمتاً؟ أهذا ما تريد قوله؟
- أووه.. أنتَ لا تفهم إطلاقاً، أنظر.. لنبسط الأمر، أنت الآن شبه ميّت، أنتَ في غيبوبة، كوما، وهذا معناه أننا أنا وأنت سنصمت إلى الأبد، لا نستطيع التحدّث مطلقاً، بصوت أعني، أعني لا نستطيع أن نرفع أصواتنا، ونحدث أشخاصا آخرين، سنعيش في صمت مطبق، وبالرغم من أنني أنا هو أنت بشكل ما، إلا أن هذا الصمت الذي نعيشه الآن يجعلنا اثنين، وهذا الحديث الذي بيننا، يُسمى النجوى.. إنه ليس حديثاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، أبداً إنه مجرّد هواجس، لا صوت له، أبداً.. ولا صلة له بالواقع، ولا يمكن الاعتماد عليه كدليل رسمي في الجنايات وما شابه، وهذا معناه أيضاً، أنك لا تسمعني أنا، بل تسمع نفسك. فقط.. أجل تسمع نفسك.
- أها.. فقط نفسي، يعني فقط أنت؟ هذا معناه أني لا أفهم نفسي، بالرغم من أني أسمعها.
- لا تفهم نفسك؟ ليس هذا ما قصدت، لكن وإن كان، قد يكون هذا نتيجة أخرى من بين النتائج المؤلمة التي ستعرفها نتيجة وقوعك الغريب من الطابق الثالث.
- لم أكن أحاول الانتحار.
- أعرف..
- كنتُ فقط أحاول أن أقترب أكثر، لأشاهد..
- بالرغم من هذا يجب أن تتوقع أن الناس سيستنتجون انتحارك، هذه ليست المرة الأولى، أنتَ تذكر.
- ليست مرة بالمرة.
- ماذا تعني؟
- أعني أنك لا يمكن أن تحتسبها من المرات التي حاولت فيها الانتحار، إنها مختلفة، لم أكن أحاول.
- بلى لم تكن تحاول، يبدو أنك لم تنجح أيضاً، ولكن هذه المرة، وضعتنا في مأزق، أنا وأنت.
- كيف؟
- أنظر إلى وضعنا الغريب؟
- لا أستطيع أن أنظر.. أنا فقط أسمعك.
- لا أعني أنظر، أعني تأمل.
- أجل..
- هل سأستطيع تحمّلك؟ وإلى أيّ فترة سأقدر على ذلك، كان الوضع مسليّاً أكثر حين كنتَ مصاباً بالشيزوفرينيا.
- تعني أني كنتُ مريضاً فعلاً؟
- بلى.. لكن انظر الآن إلى الجانب الإيجابي، أقصد أنك شُفيت.
- كنت تقول كلاماً آخر.. كنتَ تؤكد لي كل مرة أني لستُ كذلك.
- لم أقل أي شيء، أنظر.. يجب أن تفهم أني لا أقول شيئاً، إنه أنتَ فقط، أنتَ وحسب.
- فلماذا إذاً أنت مستاء من وجودنا معاً أنا وأنا؟ مادمت لا علاقة لك بالأمر؟
- لا أدري.
- اصمت إذاً..
- أنا صامت، وأنت أيضاً، ولا شيء سنستطيع فعله لاحقاً غير الصمت، ألا تفهم؟
- الصمت؟
- أجل الصمت.. وحسب.
- ماذا عن الغناء؟
- تستطيع أن تغني في داخلك بالتأكيد، لكن بصمت أيضاً.
- أغني بصمت؟ كيف؟
- لا أدري.. لا أحتاج هذا السجن الآن، أريد الخروج منك.
- أخرج.
(لا صوت لباب يغلق، لا صوت لخطوات أقدام، لا صوت لتنهدات، لا صوت لمحرك سيارة يتجه للبعيد ويتلاشى قليلاً قليلاً، لا صوت للصمت لحظة إغلاق كل شيء، فقط صمت).
(انتهى)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق