مهدي سلمان: «صيحة البابلي» المعاصر

 



قراءة في ديوان (صيحة البابلي) نُشرت في جريدة الأخبار اللبنانية: 



تهاني فجر

السبت 4 تشرين اول 2025


يضع كتاب «صيحة البابلي» (منشورات تكوين ــ الكويت) للشاعر البحريني مهدي سلمان قارئه مباشرة في مواجهة تجربة شعرية صعبة المراس، تجربة لا تُقرأ على عجل، ولا تُختصر في انطباع سريع، بل تحتاج إلى غوص وتأمّل طويل.

يبدو النصّ كصرخة كونية مفتوحة تتردّد في أفق خراب الإنسان واللغة والوجود، حيث تتداخل القيامة بالمنفى، والحياة بالموت، واللغة بالصمت.

ما يقدمه سلمان هنا ليس قصيدة مطوّلة فقط، بل مشروع شعري متكامل يسائل جذور القول وجدوى الكلمة. يقول: «أهذه إذن القيامةُ؟ أم بدايتُها؟ أم الريحُ التي تسفو عليها، أم حريقٌ طارئٌ فيها، وما فيها وما فينا بها إلا الحريقُ».

منذ البداية، يدخل الشاعر في حوار مباشر مع فكرة القيامة. لكنها ليست قيامة لاهوتية صافية، بل قيامة مجازية تعكس انهيار الإنسان أمام العدم.

يتساءل القارئ مع النص: هل النهاية بداية؟ هل الخراب هو عين الانبعاث؟ هذا السؤال الجوهري الذي يتكرر في مقاطع مختلفة، ليصير محور التجربة كلها، كأنّ القصيدة تتحرك على إيقاع دائري يُعيدنا دوماً إلى نقطة الصفر، إلى السؤال ذاته الذي لا جواب له. في مقطع آخر، يكتب: «في النهاية ليس هنالك إلا البداية، تتكرر دون ختام».

بابل ـــ كما يستحضرها سلمان ــ هي رمز كثيف، مزدوج الدلالة. هي المدينة التي انهارت فيها اللغة وتبلبلت فيها الألسنة، لكنها أيضاً صورة عن حاضر الإنسان الممزق بين صراعاته وهشاشته.

يوجّه الشاعر خطابه إلى بابل كأنها مرآة، يستنطقها، يحاورها، يتهمها أحياناً، ويطلب منها الخلاص في أحيان أخرى. وهنا يظهر البُعد الرمزي العميق للنص: بابل ليست مكاناً أسطورياً فقط، بل استعارة عن الوجود البشري كله، بما فيه من خراب وحنين وأوهام خلود. يقول: «يا بابلُ انتظري المسافةَ كي ترنّ كأنها قدحٌ من البلّور… بابلُ، حدّقي، النسيانُ عينٌ من زجاجٍ، فتّتيها عند خوف الربِّ».

اللغة في هذا الكتاب ليست وسيلة للتعبير فقط، بل موضوع قائم بذاته. الكلمات تتفتت، الشفاه تتكلم وحدها، الأصوات تتناسل وتتصادم. اللغة تصبح كياناً مادّياً يحيا ويموت، ينهار ويتشظى. هذا الاشتغال المكثف على اللغة يجعل القارئ يشعر أنه لا يقرأ شعراً بالمعنى التقليدي، بل يدخل في تجربة فكرية عن حدود اللغة ومعناها.

ثمة شعور دائم بأن الكلام نفسه قد صار كارثة أخرى، وأن الصمت قد يكون الوجه الآخر للقصيدة. يكتب سلمان: «لا شأن للمعنى بتفسير الكلام، لم نبتكر لغةً، فلا تخسف بنا يا ربّ، إن كلامنا أن لا نقول».

التجربة القرائية هنا مرهقة عمداً. النص طويل، متشعب، يكرر الصور والأصوات، كأن القارئ مدعو إلى طقس شعائري يتطلب منه الانخطاف والإنهاك معاً. الصور التي تستحضرها القصيدة ـ النار، الرماد، المطر، الصدى، الشفاه ـ ليست محض استعارات، بل أدوات لبناء عالم شعري خانق، يذكّر القارئ بمخاوفه العميقة: الخوف من العدم، من ضياع المعنى، من استحالة النطق في عالم مفكك. «بيدر واسعٌ وسواد، بيدرٌ من رماد، بيدرٌ عجزك الآن»... صورة تختزل هذا المناخ الكثيف.

ورغم الطول والامتداد، ثمة بناء درامي واضح: يبدأ النص بدهشة أمام الخراب، ثم يتصاعد عبر حوارات مع الريح وبابل واللغة، وصولاً إلى الانفجار الكبير في صيحة البابلي. هذه الحركة تمنح النص طابعاً مسرحياً داخلياً، كأنّنا أمام متوالية من المشاهد التي تنسج في النهاية رؤيةً واحدة: القيامة ليست لحظة محددة، بل صيرورة دائمة من الانهيار وإعادة البناء.

البُعد الفلسفي في النص لا يقل حضوراً عن البُعد الشعري. فالتأمل في الزمن، في المصادفة، في جدوى اللغة، وفي العلاقة بين المعنى واللامعنى، يكشف أنّ الشاعر لا يكتب قصيدة فقط، بل يُقيم حواراً مع الفكر نفسه. هنا يتقاطع النص مع أسئلة فلسفية كبرى، لكنه يظل وفياً لخصوصية الشعر: الغموض، الانخطاف، الانفعال. الشعر عند سلمان ليس تجميلاً للعالم، بل مواجهة معه، مواجهة قد تكون عنيفة، لكنها تظل صادقة.

«لا شيء لي، وليس لديه سوى الشك في كل شيء»، عبارة تلخّص هذه الروح الفلسفية القلقة. يجد القارئ نفسه في قلب هذا الصراع. لا يخرج من النص بطمأنينة، بل بارتباك أكبر.

يشعر أنّ القيامة التي يتحدث عنها سلمان ليست بعيدة، بل داخلية، تخصه شخصياً. انهيار اللغة هو انهياره هو، والصدى الذي يتكرر في النص هو صدى صمته الخاص. وهذا ما يجعل الكتاب أكثر من تجربة شعرية: إنه مرآة وجودية تعكس هشاشة الإنسان في زمن مرتبك.

صيحة البابلي في النهاية كتاب لا يطمئن قارئه ولا يدّعي أن يقدّم إجابات. قوته تكمن في قدرته على زعزعة اليقين وفتح الجرح. إنه نص يليق بزمن لم يعد المعنى فيه مستقراً، ولا الكلمة قادرة على أن تعطي خلاصاً.

في هذه المغامرة، يضع مهدي سلمان نفسه ضمن تقليد شعري كبير، لكنه يذهب أبعد، فيجعل من القصيدة مكاناً للتفكير الفلسفي، ومختبراً لأسئلة الإنسان المعاصر. إنه نص يُقرأ ببطء، وربما يُعاد قراءته أكثر من مرة، لأنه في كل مرة يكشف وجهاً جديداً من وجوه العدم، ويعيد القارئ إلى صرخته الأولى: صيحة البابلي.

ليست هناك تعليقات: