سر الصورة

سألتُهُ.. ما الصورة؟ فلم يُشِر إلى مكان، بل تناوَلَ قلبَهُ ووضعَهُ في كفّهِ، ساعتها خُيّلَ إليّ أنه مجنون، لكني لم أجرؤ على البوح، أعدتُ عليه السؤال.. ما الصورة؟ فجرّني من يدي إلى أول الطريق، ووقفَ راكزاً عينيه في المدى، وضعتُ بصري حيث وضع بصره، ثم أمعنتُ في مداه، فرأيتُ زمناً يتلوّن، ينقلبُ على نفسِه، يضيعُ في العينين ولا هو بالذي يجدُ نفسه، ولا أنتَ أيها الناظرُ بالذي تجده.

هل نحنُ نفكك الصورة حين نريد أن نصفها، أم أننا نبني صورةً أخرى مغايرة.. مختلفة، وعلاقتها بالصورة الأم ليست سوى علاقة إيهامية؟
عندما قرأتُ خبراً يتحدث عن أن سرّ ابتسامة الموناليزا ليس سوى لأنها ابتسامةُ شابّة حديثة الولادة، أقلقني سؤال الصورة هذا.
مهما بلغ العلم مرحلة متقدّمة فإن علاقته بالصورة تظل مشتغلة على المجاز، فهو يستطيع أن يقنعني بتقديره لعمر الموناليزا (اللوحة) والأصباغ التي استخدمها دافنشي في رسم اللوحة، وحتى أن يخبرني أية فرشاة استخدم، بل وأية يدٍ استخدم في رسم هذا الجزء أو ذاك من اللوحة.
غير أنه لن يقنعني أبداً أنه قادر على اكتشاف (سرّ الصورة).. أية صورة، سواءً كانت زيتية أو فوتوغرافية أو شعرية أو ذهنية، كل أسرار هذه الصور هي رهنٌ بالتأويل والمخيّلة، قد يكتشف العلم موادها ويفكك أجزاءها، قد يعرف صنعتها وبناءها، غير أن ذلك السرّ الخفي في الصورة والذي يسرق الروح بالروح هو سرّ خاص لا تستطيع الصورة أن تبوحَ به.
ولذلك فإن العلوم الإنسانية حين تُلامس الصورة بصورها المختلفة فإنها تحاول دائماً أن تبحث عن المادي فيها، عن القادر على الإفصاح والكشف، لا على ذلك المتخفّي والكامن أو اللامرئي المحرّك، الذي ربما نستطيع أن نصفه (بالسرّ)، وربما لهذا كانت هذه العلوم أقرب للبحث في السرد منها في الشعر.
ولذلك أيضاً تخلّت بعض النظريات الحديثة في النقد عن البحث في الشعر، ذلك الملغز دائماً، وذلك الكائن اللامكشوف، فأخذت تبحث في السرد الذي احتفظ هو أيضاً بأسراره الصغيرة، التي لم يستطع النقد الحديث أن يكشفها، لأنها ببساطة ابتسامات صغيرة مثل ابتسامة الموناليزا.. قد يخمّن العلم أنها لفتاة حديثة الولادة، ولكنه غير قادر على أن يجزم بذلك، تاركاً لنا لذّة البحث عن التأويل الضائع، ووضع التخمينات ثم هدمها.

ليست هناك تعليقات: