حينما نعني الفعل الإبداعي، ذلك الخارج في كثيرٍ منه عن الإدراك والوعي الحسّي، وذلك الذي يأتي من مناطق عميقة في الذات الإنسانية، لا يستطيع المبدع تحسسّ أغلبها أو استيعاب مكامنها الفعلية، ولا يستطيع المتلقّي إلا أن يؤول بضع إشارات قد تدّل على هذا أو ذاك مما قد يعرفه عن المبدع أو يتخيّله، لا نستطيع حينها أن ننكر تأثير كل ما حدث أو يحدث في تلك المكامن والمناطق في شكل وهيئة ومضمون الفعل الإبداعي، وعندها أيضاً لا نستطيع أن ننّزه المبدع عن كل ما يخالف أفكاره التي تبنّاها لاحقاً، فتلك المناطق التي يخرج منها الإبداع غير مسؤولة، وغير ملزمة أبداً بما يتبّاه المبدع في حياته من أفكار ومن رؤى. سأل أحد الكتاب المصريين الشاعر أدونيس في ندوة أقيمت له في القاهرة حول ما إذا كانت خلفيته الإثنية تظهر في شعره، فرفض أدونيس ذلك تماماً، وقال »لا يمكن ذلك فأنا رجل لا ديني«، وهنا تقافزت إلى ذهني شخصيات وأسئلة وأفكار ومناهج علمية وأدبية ونفسية، إذ كيف يمكن لشاعر مثل أدونيس أن ينكر ذلك الدفين تحت الرماد منه، خصوصاً عندما يتناول الأمر جانب الفعل الإبداعي، لا الفعل العلمي، كيف يمكن أن يؤكّد أدونيس أنه من غير الممكن أن تظهر خلفيته الفكرية والإجتماعية والإثنية والمذهبية والعرقية في شعره، وأن ما يبقى منه هو ما يؤمن به حالياً، أو ما يعتنقه حالياً، وقتها يجب أن نسأل عن طبيعة الفعل الإبداعي لدى أدونيس، وطبيعة الفعل الإبداعي في تصوّره بشكل عام، وهل يمكن أن يكون الفعل الإبداعي ومناطق إنتاجه خارجة من الوعي الذاتي تماماً، خالصة من مناطق اللاوعي. وإن أمكن ذلك بالنسبة لأدونيس فلماذا إذاً يُلحظ كل ذلك التخلّف في كثير من المثقفين العرب، ليس على الجانب الإبداعي فحسب بل حتى على المستوى الحضاري، والفكري، والعلمي، لماذا لم يستطع المثقفون العرب التخلّص من تلك الخلفيات الإثنية والفكرية والثقافية التي عاشوها وتعاملوا معها ومن ثم رفضوها وأنكروها، لماذا لا تزال بعض جوانبها حاضرة في إبداعهم وفي سلوكِهم الحضاري وفي نفسياتهم. لا أعتقد أنه من السهل التخلّص من كل ذلك الإرث بسهولة، ولا أعتقد أن أحداً منا يستطيع أن ينكر حضور بعضٍ مما يرفضه وينكره في ذاته، وعلينا أولاً أن نحاول التخلّص من أثر هذا اللاوعي في نفوسِنا وسلوكنا الحضاري وفعلنا العلمي والثقافي ومن ثم يمكن أن نحاول أن لا نجعله يظهر في فعلنا الإبداعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق