لغة قادرة على النمو

حسن مدن


هل يمكن أن تكون السيرة الذاتية.. ذاتية حقاً، أي أنها تمس ذات كاتبها وحسب؟ وهل يمكن أن تتحول كتابة السيرة الذاتية إلى كتابة فوق الذاكرة لا عنها، كتابة على الذاكرة لا فيها؟ بحيث تغدو انتباهاً لاشتغالات الذاكرة أكثر منها تراخياً لمفاعيلها، وقبضاً على لحظاتها لا استدعاءاً لصورها.
ليست السيرة الذاتية وكتابتها لدى د. حسن مدن في كتابه (ترميم الذاكرة) هي كتابة الأحداث وما تختزله الذاكرة والتعليق على هذه الأحداث واستفزاز الذاكرة لتصحيح موقف ما هنا، أو حدث ما هناك، فبالرغم من أنه كتاب يقوم تماماً على هذه الصور المستدعاة من الذاكرة، إلا أن الكتاب يتناول في لغة سلسة وجميلة كيف تولد هذه الصور، وكيف تنمو وكيف تصبح، ودون أن يدّعي شيئاً يقوم مدن باشتغال جميل في هذا الجانب فهو يستدعي الحالة، بشيء من الشغف الذي يوحي بأنه لا يريد أن يصفها فقط، ولا أن يحللها، ولا حتى أن يعيشها مرة أخرى، بل هو يريد أن يفهم كيف تحوّلت.. إنه يصل إلى أعماقها، إلى لحظة البدء ويتابعها باهتمام، يجعل المتلقي يذهب أيضاً في هذا الاهتمام، ويجعل المتلقي يتساءل إن كان الذي يكتب أمامه الآن هو كاتب أم عالم أم شاعر أم روائي أم.. باختصار (ماذا؟).
لا يعتمد مدن على تسلسل معين في الذاكرة، ولا على تقسيم معين أيضاً إنه يلعب بالزمن ويسترسل من خلاله في بعث ذاته الراهنة في كل صورة سابقة، إنه يعلم تماماً أنه لا يستطيع أن يخلص من ذاته الراهنة في حديثه عن ذلك الماضي، لذلك هو يتعمد أن تكون هذه الذات الراهنة حاضرة في ذهنه وفي لحظة الكتابة، يريد لها أن تكون حاضرة ومتحكمة وفاعلة، لا يريد أن يغيّبها في لحظات استذكار محضة، ربما لأنه لا يريد لها أن تكون ذاكرة بقدر ما يريد لها أن تكون كما أسماها (ترميم ذاكرة) إنه فعل بذاته، يحاول أن يستحضر الذاكرة لا أن يذهب هو إليها، يجلبها عنده ويحاول أن يقرأها، وهذا هو الممتع في هذا الكتاب الذي يتنقل بين الماضي والحاضر بين الأنا الخالصة وبين ذوات كثيرة تحضر بشكل مفاجئ في الكتاب، بين كتابة تسرد الذاكرة وأخرى تحاول أن تفهمها.
مدن في هذا الكتاب لا يحكي سيرته هو وحسب، بل هو يتعمد أن يستحضر سيرة الكتابة نفسها، الكتابة كفعل اكتشاف ولذلك فهو يذهب بنا تارة إلى رواية هنا، وتارة إلى بيت شعري هناك، تارة إلى الصورة وتارة إلى السينما، ونحن كقراء علينا أن نستمتع فقط أمام هذه الطاقة المتفجّرة بالحياة والمعرفة والحب والدهشة، قد يكون صحيحاً أننا حين نقرأ الكتاب نشعر وكأننا أمام طفل صغير تأخذه الدهشة بكل شيء وبالطبع هذا الطفل هو ذاته الفيلسوف الذي يحلل هذه الدهشة ويحاول أن يعرف مصادرها.
في بداية الكتاب لا يعنى د. حسن مدن بوضع مقدمة ولا بوضع فصول أيضاً - وحدها فقرات تمتد على صفحات الكتاب الـ 118 مثلما تكون قد وضعت لتكون تعليقاً على الحياة – وتبدأ هذه الفقرات بتساؤل عميق (لماذا بين ركام الأحداث والوقائع الكثيرة التي نحياها في حياة ممتدة لا تحتفظ ذاكرتنا إلا بنزر يسير منها؟!) وهكذا يدخل مدن في عمق بحثه عن اللحظة، منذ الجملة الأولى فهو لا يريد أن يسرد لنا حكاية، وربما عملية كتابة هذا الكتاب لا تعنينا كقراء بالدرجة الأولى، إنما هي تعني هذا الجالس أمام أوراقه وذاكرته، ويسألها هذا السؤال الصعب، ثم تنفلت الأجوبة من كل جانب، أجوبة عميقة وأخرى (طفلة) لا يهم، ولكنها تظل استفزازاً له على الذهاب أكثر في الاطلاع على الأنا السابقة التي وضعت هذه الفقرات، أجوبة تنهمر من رويات ومن قراءات من أفكار ومن تخيلات، ومن الذاكرة ومن الواقع، أجوبة لا تريد الإجابة على السؤال بقدر ما تريد أن تجعله مستحيلاً، يقول مدن (في حياة المرء تحين لحظة يمكن أنطلق عليها لحظة الوقفة مع الذات، لحظة تتكثف فيها المشاعر والخبرات والأفكار والأماني التي لم تبلغ في بؤرة واحدة تشع بالتوتر والأسئلة).

البداية.. العودة إلى الذاكرة

في بداية حديثة عن الذاكرة يعود بنا مدن إلى لحظة عودته من المنفى إلى الوطن، بالضبط في السابع والعشرين من فبراير 2001م، هذه العودة ترتبط بصور أخرى وبمشاهد أخرى، بذكريات سابقة على اليوم نفسه ولاحقة لليوم نفسه، وهكذا يواصل مدن لعبته بالزمن، فيعود من خلال المكان إلى أزمنة أخرى، أزمنة لم يستطع فيها أن يفعل ما يفعله في هذا التاريخ.. يقول (اليوم السابع والعشرون من فبراير 2001 لن تكتفي برؤية الوطن من السماء، من علو، ولا من وراء زجاج المطار. ستخطو برجليك إلى ما هو أبعد من ردهة المطار، ستتجاوز بوابته الرئيسية وتخرج إلى الشارع وتشمّ هواءه).
وهكذا يظل مدن يستدعي المشهد كله.. كيف عاد للوطن، كيف استقبل، كيف عاد إلى المنزل، كيف شاهد المنزل الذي غادره منذ 25 عاماً، ولكنه بالرغم من ذلك لا يتخلّى عن دور الرائي، إنه لا ينظر للأمر على أساس أنه راوية يروي لنا أحداث مرت به، بل هو ينظر إلى الأحداث من داخله هو، داخله المليء جداً والمتعب جداً والصبيّ جداً أيضاً، ولذلك فهو يذهب أعمق في التفكير بالكتابة عوضاً عن التذكر بالكتابة يقول (نحن لا نختبر الزمن إلا في ما يتركه من آثار على الأجساد والوجوه، خارج ذلك نحن لا نعثر على أثر لهذا الزمن، لا نمسك به) ويبدو أن هذا هو غرضه من هذا الترميم للذاكرة، إنه لا يريد أن يرى آثار هذا الزمن، إنه يريد أن يمسك به، ولذلك فهو يقسمه كيفما يريد هو لا كيفما يريد الزمن أن يبدو، فيعود إلى الصبي الذي كانه، ثم يرجع إلى الرجل الآن، يعود لرجل يعود إلى وطنه تواً، ثم يقفز إلى رجلٍ يتذكر عودة ذلك الرجل، وفي كل ذلك تحضر الأزمنة والأمكنة والشخوص ككائنات ثقيلة الوطء على نفسه، خفيفة في مرورها على الذاكرة.
فيتذكر ذلك الطريق (طوال الطريق كنت أحدق في معالمه، في البيوت القديمة المتاخمة للشارع الذي قطع قرى سنابس وجدحفص وجبلة حبشي والسهلة الشمالية قبل أن ننعطف باتجاه السهلة الجنوبية، إلى الحسينية الجديدة، لقد شُيّد مبنى هذه الحسينية في السنوات الأخيرة، أما الحسينية القديمة التي أعهدها فقد ظلت مكانها بمبناها القديم، وأخبروني بأنها باتت الآن للنساء) مثل هذه اللغة الواضحة والبسيطة والطازجة تماماً تشعرك باهتزاز السيارة، بانعطافها، بتوقفها، تشعرك وكأنك إلى جانب هذا الرجل الذي يطل من النافذة ويتحدث لنفسه، وكأنما أنت لا تقرأ كتاباً، بل أنت تشاهد حواراً في فيلم سينمائي، وإن لم تصّدق ذلك فيمكنك أن تقرأ هذه العبارة (فيما بعد.. كلما سمعت الشطر الذي يقول (بيته في آخر البيوت قدّامه عليّه) في أغنية فيروز (يا مرسال المراسيل)  كنت أشعر بسعادة، لقد قررت بيني وبين نفسي أنني المقصود بالأغنية، وبسعادة لا تخلو من الادعاء سأكرر ذلك كثيراً).
وينطلق هذا الراوي الممتع في جعلنا نشعر كل لحظة بأننا نتلصص عليه، نتلصص على ذاكرته، ونتلصص على فعل هذه الذاكرة فيه، لأنه لا يجعلنا أبداً نستقرّ مع الحكاية، دائماً ما يكون ثمة حديث آخر لهذه الذاكرة، ودائماً ما يكون ثمة اشتغال على طرح إجابات السؤال الأول، أو طرح أسئلة تنبثق منه أو منها، ومع الرواية يأخذنا مدن إلى عوالم هذا النص المتنوع والغني بقدر شخصيته وبقدر الطفل في داخله (في فترات (التزويغ) من المدرسة التي أشرت إلها في بدايات العام الدراسي أو نهاياته كنا نتسلل إلى هذا المسجد ونصعد منارتيه العاليتين عبر السلم الدائري في داخل منهما لنصل إلى أعلى شرفة في كل واحدة من هاتين المنارتين، أذكر أن السلم كان شديد العتمة، قليلون من كانوا يجرؤون على الوصول إلى الشرفة الأعلى)، ويذهب أبعد في هذه الذاكرة، أبعد نحو الكتابة (بعد أن أنهيت الامتحان الأخير في نهاية العام الدراسي لم أتوجه إلى البيت، وإنما إلى مكتب (صدى الأسبوع) الواقع في شارع أبي العلاء الحضرمي المتفرع عن شارع باب البحرين، هناك قابلت علي صالح الذي كان يشغل منصب مدير تحرير المجلة، أفصحت له عن رغبتي في العمل كمتدرب، ولاحظت أنه أبدى حماساً للفكرة قائلاً أن إدارة المجلة راغبة في استكشاف مواهب صحافية واعدة بين طلبة الثانوية).
كيف يمكنه ذلك؟ الخروج والدخول من اللغة وإليها بهذه السهولة والمطاوعة، كيف يمكنه أن يتعامل مع اللغة بكل هذه القدرة، حينما يتحدث عن لحظات كهذه يجعل اللغة قادرة على أن تعود بالزمن، قادرة على أن تتخلى تماماً عن كل ما اكتسبته خلال هذا الزمن وتعود إلى طبيعتها الأولى، هذه العودة إلى الذاكرة لا تتم فقط عبر العقل، إنه أيضاً الشعور الذي يجعل كل شيء يعود إلى تلك اللحظة حتى اللغة، وهي مقدرة ربما يمتلكها كتاب الدراما بشكل خاص والسينما بشكل أخصّ، اللغة التي كانت تبحث منذ قليل وقبل فقرة سابقة في الغربة الداخلية والغربة الخارجية، اللغة التي قبل قليل تغوص في كتب متنوعة وفي ذاكرة غنية، تتحول بلحظة لديه إلى لغة (طفلة) بإمكانها توصيل المشهد بابتسامة غامضة.

الخروج.. نحو أفق ينفتح

 (حين سافرت للقاهرة للدراسة الجامعية فيها، أدهشني ضجيج المدينة) وهكذا تكبر اللغة أيضاً، وهكذا يستطيع حسن مدن أن يجعل من اللغة كائناً ينمو مع نمو الشاب الذي كانه، ليست اللغة فقط، بل وحتى الرؤية، لا يريد مدن أن يدهشنا بقدراته.. لذلك فهو لا يستخدم للصبي سوى لغته، ولا للشاب سوى لغته، لا يستخدم للصبي سوى مداركه ولا للشاب سوى مداركه، وبين هذا وذاك وحين يريد أن يتدخّل فإنه يلبس بكل سهولة لباس (د. حسن مدن) الراوي الآن ليعلّق على ذاكرة ذلك الصبي، وذلك الشاب، ويمضي في سرد حكاية الشاب مع مصر، مع عبد الناصر الذي يمثل الكثير في مخيلة الصبي وقتها، ويعود بعد ذلك لينقل حكايته مع الفكر التقدمي والديمقراطي، ويعود إلى القاهرة هكذا بنقلات سريعة، يتحدث عن المقال الذي كان من بين الأسباب التي أدّت إلى إيقاف (صدى الأسبوع)، عن تجربة التوقيف في مصر والترحيل بعد ذلك، عن سلسلة المؤقتات التي صارت دائمة، والعراق الذي جاء بعد مصر، وعن بيروت التي تجيء بعد بغداد، بعد تعذّر العودة إلى البحرين.
يقول (لن أنسى أول صباح أفقت فيه من النوم في بيروت، في الشقة التي تقع في منطقة الفاكهاني بالطريق الجديدة ليس بعيداً عن مبنى جامعة بيروت العربية، ولا عن مخيمي صبرا وشاتيلا الشهيرين، كان أحدهم قد فتح الراديو وكانت فيروز تغني (حليانه الدنيا حليانه، بلبنان الأخضر) شعور غريب انتابني بالقرب الروحي من هذه المدينة، سيتطور فيما بعد إلى محبة عميقة وتعود كبير عليها). وهكذا تنفتح آفاق السفر نحوه، وتنفتح نحونا آفاق اكتشافه، وهكذا يمضي مدن في سرد ذكرياته، وهكذا نتعود على لغة تنمو، وذكريات تضجّ بالحياة، لا أدري إن كان هو أراد لها أن تضجّ بالحياة لهذه الدرجة أم أن طزاجة الذاكرة لديه تجعلها هكذا قادرة على أن تحتفظ بكل هذا الوهج، وكل هذا التداعي الجميل في السرد.
ولا أدري أيضاً إن كان تقصّد أن ينهي كتابه الذي يتحدث عن الذاكرة، بحديث شيّق أيضاً عن النسيان يقول فيه (نحن لا ننسى.. إنما نتظاهر بالنسيان، إن رغبة ملحّة معذبة تنتابنا في التحرر من الألم الناجم عن الشعور بالفقد مثلاً، هي التي تحملنا على السعي لإقصاء الأمر من الحضور اليومي في أذهاننا)، وهكذا بهذه القدرة المدهشة على شدّ الإنتباه، يواصل مدن سحبنا إلى عوالمه التي لا تكتمل أبداً إلا بالدخول فيها، ولا يكتمل الحديث عنها إلا ليبدأ الحديث عنها.

ليست هناك تعليقات: