من (المثالية) العربية.. إلى شخصية تقول ذاتها




إشكالية الكتابة حول (راقصة) في فيلم خليجي.. فيلم (مريمي)..


في فيلم (مريمي)  قدمت (مؤسسة عمران ميديا) هدية رائعة للسينما القصيرة في البحرين، قدمت إشارة مهمة لطريق سينمائي أرجو أن يستثمر في سبيل خلق مناخ سينمائي جديد يجعل من السينما فناً لا صوتاً كما هو حاصل الآن، يجعل السينما تقدم صوتها عبر بوابة مهمة هي بوابة الفن، ويجعلها لا تكتفي أبداً بتقديم مقولتها بل تطرح السؤال الأهم وهو (كيف).. كيف أقدم مقولتي عبر السينما، (مريمي) طرح اقتراحاً، ولكن لابد أن ثمة اقتراحات أخرى، ولكن في النهاية من المهم الاتكاء على سؤال (كيف) لكي نخرج بالفن.
مريمي فيلم من سيناريو الكاتب الإماراتي المبدع محمد حسن أحمد، وإخراج الفنان البحريني علي العلي، ومن تمثيل نخبة من نجوم البحرين من بينهم الفنان جمعان الرويعي والفنانة فاطمة عبد الرحيم والفنان مبارك خميس،
في هذا المقال سأحاول أن أخوض مع الكاتب محمد حسن أحمد في فيلمه الذي يقول عنه بأنه امتداد لفيلمه الجميل السابق (بنت مريم) على أمل أن أتناول مرة أخرى جوانب أخرى من هذا الفيلم المهم:

التصرّف في شخصية الراقصة..

لم يخرج الكاتب الإماراتي محمد حسن أحمد عن التصور المسبق لتقديم صورة (الراقصة) في التناول السينمائي العربي، فهي ما تزال (في فيلم (مريمي) الذي قدمته (مؤسسة عمران ميديا) البحرينية بإخراج البحريني علي العلي) مغلوبة على أمرها، محتقرة من الجميع، تعمل في هذا المجال من أجل الحاجة، إلى آخر الأشكال المكرسة لصورة الراقصة في السينما العربية وبالأخص لدى تيّار الواقعية السينمائية، وبالرغم من أن الفيلم حاول أن يجعل من الراقصة (مريمي) قصة إنسانية إلا أنه عبر هذا التناول المكرس للشخصية دخل في صناعة الشخصية، فصارت أفعال الشخصية وخلفيتها وروحها، وحديثها، صورة نمطية متوقعة لم تخرج عن المألوف في التناول السينمائي العام لهذه الشخصية الإشكالية. وهذا ما أخرجها عن الحالة الإنسانية التي كان من المفترض أن توصلنا إليها إلى حالة أخرى آلية ونمطية، خلقت حاجزاً فيما بيننا كمتلقين وبين هذه الشخصية، جعلتنا نشعر كثيراً بأن ثمة (كذبة) ما في هذه الشخصية، تزيين ما في صورتها، كاتب ما.. ومخرج ما يقفان بيننا وبين الشخصية، يحولان دون أن نراها على حقيقتها، يريدان لنا أن نرى ما يريدان من جوانب شخصيتها، وهذا ما أضعف الشخصية لأنه فرّغها من قوتها الحقيقية وهي (الجرأة).
شخصية (مريمي) كانت أكثر جرأة من كاتب العمل، الفنانة (فاطمة عبد الرحيم) استطاعت خلال مشهد ضحكها على طلب (عثمان) الزواج منها، أن تقترب كثيراً من منطقة (حظر) النص عليها الاقتراب منها فيما يبدو، ضحكة (فاطمة عبد الرحيم/ مريمي) وقتها كانت أكثر صدقاً من لحظات كثيرة أراد الفيلم إدخالنا فيها، لأنها كانت أكثر عفوية من (نص) مرسوم بعناية، كانت تقول شخصيتها بكل صدق دون أن تخاف من الشخصية، دون أن تزينها لنا لنتقبلها.
أكثر ما أثارني في (مريمي) هو هذا الجانب بالتحديد، هذا التصرّف في الشخصية وتهذيبها لتناسب ذوقنا، ولتناسب معتقداتنا، ولتناسب رغباتنا، خلق هذه الموازنة فيما بين شخصية (الراقصة) وهي (الملعونة في المجتمع، المغضوب عليها، الفاجرة...) إلى آخر التوصيفات التي يطول ذكرها، وفيما بين تصوّرنا حول شخصية (مثالية) فالراقصة كما أراد لها محمد حسن أحمد كانت (راقصة شريفة) لا تمارس الدعارة إلى جانب ممارستها للرقص، وبالرغم من أنها كانت تبيت الليل كله في بيوت مضيفيها، إلا أنهم (كانوا سكارى.. ويريدونها أن ترقص فقط.. يخافون أن تذهب وتتركهم) كل هذه المبررات لكي لا تخرج الشخصية عن (المثالية) العربية، كل هذه المبررات لليّ الشخصية من أجل أن تتوازن و(التفكير العربي) الذي يربط (الشرف) بالـ(البكارة)، فلا يمكن في نظر الكاتب أن تكون (مريمي) راقصة شريفة، وتكون أيضاً (عاهرة)، هذا لا يتناسب و(صورة المثال) العربية للشرف، وبالرغم من أن (مريمي) خرجت عن صورة هذا المثال، إلا أنه لابد من إرغامها على أن لا تخرج كلية عن صورة المثال هذه، عبر إجبارها على أن تكون (شريفة) بحسب التصور العربي للشرف.
هذا التصرّف لم يكن الأول في السينما العربية، وربما تكون شخصية الراقصة من أكثر الشخصيات في السينما التي يتم التصرّف فيها بما يتناسب وصورة (المثال)، وليس في السينما وحسب، بل هذا الأمر مورس في التاريخ والأدب أيضاً، إنها شخصية فاضحة ولا بد من تهذيبها، وتشذيبها لكي تستطيع الدخول إلى عوالم الفن والأدب والسياسة والتاريخ وغيرها من العوالم المغلقة، ففي النهاية مكان الراقصة هو المرقص أو غرف النوم، ولا بد لكي تحاول الدخول إلى هذه العوالم أن تتخلص من (بعض) خطاياها، وأن يتم (نحت) شخصيتها بما يناسب هذه العوالم.
ربما على مستوى الصورة البصرية للفيلم كان ثمة ما دفع بالمخرج علي العلي أن يأخذ الحذر في التجاوز، وقد يعذِر المخرج أو المنتج  بعضهم لأخذه جانب الحذر في هذا الموضوع، لأنه محاط برقابة ستمنع الفيلم أو ستحاول أن تمنعه، وربما أيضاً لأنه محاط بمحاذير اجتماعية تخص العاملين معه في الفيلم، وبرغم كل هذا كان المخرج والممثلين أكثر جرأة من الكاتب، فالكاتب وقع في فخ (التنميط) وربما دون أن يدري، بينما حاول المخرج وطاقمه أن يخرجوا قليلاً وإن كان عبر (قبلة على القدم وحسب) في سينما خليجية نرجو أن لا تظل طويلاً تخاف من ظلها.

تكرار.. واختصار

في الكتابة السينمائية التي يقدمها محمد حسن أحمد يحضر الماء بصورة قوية وطاغية، الماء ثيمة أساسية من ثيمات محمد حسن أحمد، فهو المطر الذي ينهمر بالخير ويغمر (الفيلم وساكنيه بالفرح) أو الذي يبكي أحياناً بحرقة، وهو البحر الذي يهدهد مريديه، أو يقذف بهم نحو الغضب في أحيان أخرى، هو ماء الغسول الهادئ الذي تخرج به الشخصيات إلى ذواتها، وماء الطهارة الذي تتحول من خلاله الشخصية، وماء الانتظار الذي يفرض صوته على إيقاع المكان، ومحمد حسن أحمد استخدم الماء في بعض أفلامه بصورة مدهشة وشعرية وشديدة الذكاء، وفي أحيان قليلة لم يخرج حسن بصورة واضحة لاستخدام الماء أو أنه كان يستخدم الماء بصورة سلبية وغير معبرة، وفي فيلم (مريمي) حضر الماء أيضاً كثيمة أساسية اشتغل عليها ووظفها في كثير من الأحيان بنفس النَفَس الشعري الذي اشتغل عليه سابقاً، ولكن هذه المرة يحق لنا أن نسأل إن كان الماء سيأخذ صوراً أخرى في سينما محمد حسن أم أنه استقرّ تماماً على نفس الاستخدامات، فالماء هذه المرة حضر أيضاً بصور البحر الهادئ الذي يغتسل فيه (عثمان/ جمعان الرويعي)، وصورة (الغسول) وهو ماء (زمزم) الذي اغتسلت به (مريمي) قبل خروجها الأخير، ولكن ينبغي هنا أن أشير إلى أن الماء لابد أن يأخذ صوراً أخرى لدى الاشتغال على المكان وفيلم مريمي كان لابد للثيمة فيه أن تتواءم والمكان الذي تشتغل من خلاله وهو (البحرين) هنا، وهذا أمر كان لابد له من بحث أكثر عمقاً، كان من المفترض أن يشتغل عليه إما هو أو المخرج الذي هو أكثر دراية بعلاقة المكان (البحرين) والماء. 
خلال الفيلم كانت الصورة الأكثر تماسكاً في بناء هذه العلاقة فيما بين حكاية الفيلم ومكانه والثيمة الشعرية التي يشتغل عليها محمد حسن أحمد وهي الماء، كانت صورة مجرى الماء في (البستان) بداية الفيلم، ولكن هذه الصورة الأكثر تماسكاً كانت هي أيضاً الأقصر، فيما يبدو أنه تقصير في الاشتغال عليها بالتحديد. 
وهنا أيضاً لابد لنا أن نسأل  عن ثيمات أخرى تحضر في أحيان كثيرة في سينما حسن أحمد، بحيث يجعل تكرارها أمراً لا مبرراً، ومن بينها صورة نوم ممثلين بصورة متقابلة التي استخدمها حسن كثيراً وآن له أن يطوّرها أو يتخلّى عنها.
أما الأمر الذي بدا واضحاً لي أن على (محمد حسن أحمد) أن يحاول تقنينه أو التخلص منه تماماً في أفلامه فهو تقنية السارد أو الراوي، التي تكررت كثيراً في أفلامه بحيث أعطتها صبغة أدبية وقلصت كثيراً من الفعل السينمائي الذي لابد أن ترتكز عليه السينما، إن عملية الربط فيما بين المشاهد عبر لغة السرد مهما كانت أدبية ومهما كانت عالية يجعل الفيلم يتجه نحو إيقاع بطئ غير قادر على التواصل مع المتلقي، وهي تقنية لابد لدى استخدامها من تقنينها لكي تستطيع أن تنجز هدفها دون أن تقلص من دور الفعل والحدث السينمائي.
ختاماً لابد من القول أن سينما محمد حسن أحمد هي سينما خاصة، فيها كثير من التفاصيل المهمة، وكثير من المقولات التي تريد أن تطرحها، ولذلك فهي سينما غنية حقاً، وقادرة دائماً على إثارة الإشكاليات والجدليات، وهذا ما يجعل الحوار فيها أو حولها حواراً طويلاً وخلاقاً.
ويظل في النهاية فيلم (مريمي) خطوة مهمة نحو سينما روائية قصيرة بحرينية مميزة، تعتمد على رؤية واضحة وخطة متكاملة، ويظل الفيلم يذكّر بأهمية العمل المتواصل من أجل الخلق والتكوين، واشتغال مؤسسة (عمران ميديا) على السينما البحرينية بهذا العطاء وهذا الزخم، ووقوف وجوه شابة كالفنان علي العلي وراء إنجاز أفلام بهذا المستوى يجعلنا نتفاءل بالقادم بالتأكيد.

ليست هناك تعليقات: