تعمية الوطن والغربة في ديوان (امرأة من أقصى المدينة)


مهدي سلمان:
لا يترك الشاعر محمد النبهان للغربة أن تستنزفه، فهو وإن فُرضت عليه أحياناً أو اختارها في أحيان أخرى ألا أنه يحاول قدر ما يستطيع أن يتعامل معها على قدر النديّة،  فهو يستنزف منها بقدر ما تستنزف منه، هكذا في كتابه الصادر حديثاً عن دار مسعى للنشر (امرأة من أقصى المدينة) لا تشعر بالكاتب الذي (يشكو) الغربة، بالرغم من تكرار مفردات كثيرة تشي بهذه الغربة، إنهُ شاعر يطوّع الغربة كما لو كانت اكتشافاً، كما لو كانت طريقاً.

1

كما ترد مفردات الغربة، ترد مفردات الوطن، هل يمكن القول كنقيض لها؟ ليس بحسب النبهان، الذي يريد للغربة أن تكون وطناً (على أول الجسر، كان يبدّل حرفين من اسمه ويلغي الثالث، كان الثالث أول أسماء الغربة، حين تناوشها من عزلتها، وتآلف فيها وطناً) وفي هذا الكتاب لا يمكنك القبض على معنى الوطن، إن كان هو أصلاً نقيضه، وكأنما يبحث النبهان عن (إبهام) معنى الوطن أو الغربة، دمجهما في معنى واحد قادر على استيعاب الحالة الإستثنائية لهذا (السفر) المستمر الذي يعيشه.
ربما يمكننا البدء من الإهداء هنا، الإهداء الذي يجعل من الصديق وطناً، وهذا ليس تعبيراً مجازياً بالنسبة للشاعر لو تأملنا حقيقةً التفاصيل اللاحقة في الديوان، يقول في الإهداء (إلى سعد الجوير، صديقاً ووطناً مجنوناً) وربما يكون هذا الفصل أو التفصيل بين حالة الصداقة والوطن، أول ما يمكننا من خلاله رفض صفة المجازية على الإهداء، فهو يعرف أنه ليس وطناً بصفته صديقاً، بل هو صديق من جهة، ووطن مجنون من جهة أخرى، إنه التأكيد على تعويم مفهوم الوطن، وإلباسه صفات وأشكال أخرى غير تلك المعتادة أو المألوفة.

2

ما هو الوطن؟ أعني ما هي الغربة؟ إن لم يكونا الذاكرة ذاتها، الذاكرة بما فيها من أشياء وأماكن وشخوص ومشاعر، فلا يمكننا التعرّف على وطن إن لم يستحضر في كل هذا، كما لا يمكننا التعرف على الغربة إن لم تستحضر في ذلك أيضاً، فالذاكرة هي المخزن الذي يمكننا فيه ومن خلاله إطلاق التعاريف على مانريد مما حولنا، إنها بيت قاموسنا الشخصي، الذي نستطيع فيه أن نعيد كل شيء إلى ما نرى أنه أصله، ومن غير الشعر قادر على إحداث هذا الكسر  في الذاكرة، وأيضاً في التعاريف، من غير الشعر قادر على ممارسة كل هذا بخفة ومهارة، دون أن يُلحظ هذا التشتتيت للتعاريف أو يمارس عليه رقابة ما.

3

يعود النبهان للذاكرة في نصوص الديوان (العشرة) بأشكال مختلفة، يلجأ مرة إلى الشخوص، مرة إلى المكان، إلى الرائحة أحياناً، إلى المشاعر حيناً، إلى الأشياء أيضاً، ليعيد مرة بعد أخرى صياغة الالتباس القصدي في مفهومي الوطن/الغربة، في النص الديوان (امرأة من أقصى المدينة) يقول:
(كل غريب وهج.. يطفأ حيث يقيم)
من خلال المرأة  يصطفي الشاعر معنى مغايراً للغربة ، فالغربة حيث لا يمكنك أن تقيم، ليست الغربة غربة إلا حين لا تكون غربة، وفي اللحظة التي تتحول الغربة فيها إلى إقامة، لا تعود غربة، ومن غير الضروري بعد بالنسبة له نعرف إلى ماذا تتحول، وهنا تحضر المرأة كبرهان على هذا التعريف:
(يعرف أن نساء المدن الأخرى.. يبحثن عن الغرباء ليدفنّ بقايا حبٍّ في جسدٍ عابر.. كل غريبٍ جسدٌ عابر)
ياله من اختصار، أو تعريف، أو تحديد أو ضبط لمصطلح عصّي على الضبط، المرأة هي معيار التعريف هنا، فالمرأة بحدسها تبحث عن "الغرباء" أي أولئك الذين لم يتحولون بعد إلى مقيمين لتدفن بقايا حبها في أجسادهم، وكأنما التقاءُ الغربتين هذا هو الذي يفرض اللقاء ذاته، غربة المرأة في ذاتها، وغربة الغريب العابر، أو الجسد العابر.
وهنا يضعنا الشاعر في ارتباك تعريف الغربة، أو محاولة فهمها من خلال ما يريد هو، وحتى بالنسبة لشعوره هو أيضاً تجاه هذا التعريف.

4

(في الصورة، نتكئ على ذكرى عابرة..
كل غريب مرّ على ذكرى
يتّكئ على صورة)
**
(كل غريبٍ حين تمسّ قميص الروح عليه، يعلو شجر طفولته)
وهكذا في أغلب نصوص هذا الديوان، يبتكر الشاعر للغربة معانيَ مختلفة، تخرج من شجر الطفولة هذا، من تلك الصورة التي يتكئ عليها الغرباء، أو من الرائحة، أو من الشخوص، غير أن المعنى الملتبس يفرض علينا سؤال عما وراء هذا المعنى، فلماذا يريد أحد ما/ شاعرٌ ما إلباس معنى الغربة، أو إلباس معنى الوطن، ربما لابد لنا من العودة إلى بداية المجموعة، يقول:
(هكذا نلتقي
رجلٌ من أقصى سفرٍ
وامرأة من ماء
رجل من سفرٍ
وامرأة من ماء
رجل وامرأة من أقصى سفر الماء)
أليس في الرحيل المستمر كفايةَ سبب ليكسر الشاعر مفهوم غربته، ومفهوم وطنه "ربما نعود إلى التاريخ الشخصي للشاعر هنا في مسألة (بدونيته) لنفهم أكثر مراجع تعمية المعنيين، لكن ليس هذا مجال التاريخ الشخصي للشاعر الآن" فهذا الرجل الذي (من سفر) أو (من أقصى سفر)، وليس في الأمر شجناً، وليس في الأمر عاطفية مبالغة، هو لا يكسر المفاهيم رغبة في كسر الوطن، أو رغبة في كسر الغربة، إنه فقط يريد مواجهة هذه الحوادث العرضية التي تسمى حياة كل منا، يذهب إلى سينما غريبة مع حبيبة غريبة، يشمّ رائحة بحر غريب ولا يفكر في انتحار، يتذكر صديقاً قديماً كان يمثل منفى بالنسبة له، يمسك صورة تفرض عليه حضور ذاكرة ما، يعلّق مسماراً في حائط آخر ليس له، وهو يفرض عليه أن يكون له.
هذا الرحيل المستمر الذي يجعل من الغربة وطناً، ويجعل من الصديق وطناً، ويجعل من الذاكرة وطناً، ويجعل من انبعاث الحياة في التفاصيل وطناً، ولكنه في المقابل يجعل من الوطن غربة (كما يحدث لدى المرأة في الفقرة السابقة) وكل هذا من أجل استنزاف هذه الغربة، بحيث لا تستطيع هي استنزافه:
(نرحل..
لا نترك أثراً للبيت يدل عليه
ولا نحمل من ذاكرة البيت حنيناً
أو شنطة سفر
فارغة المعنى).


ليست هناك تعليقات: