(أرواح قابلة للاشتعال) هو عنوان المجموعة القصصية الأولى للقاص البحريني عبد العزيز الموسوي، والتي تصدر عن دار فراديس تتكون من 19 نصاً قصصياً يذهب فيها الموسوي باتجاهات شتى، سواء في التشكيل البنائي للقصة أو في الطرح الذي تقدمه قصص المجموعة.
أرواح الموسوي فيها كثير من الموت، ولكنها أيضاً ليست كلها موتاً، فالموسوي بلغته الهادئة والمتأملة، يحاول قدر الإمكان الخروج عن اللغة الشعرية في القصة، أو حتى الفكرة الشعرية، إلى لغة سرد تأملية، تقطعها بانسياب شديد فقرات هي عبارة عن إشارات لامعة وقوية، تعبّر عن توقّد مهم في التجربة القصصية له، ولذلك فهو لا يبحث عن الموت في قصصه بقدر ما يبحث عما خلفه، وهو لا يبحث عن الحالة الشعرية للقصة، بقدر ما يبحث عن الإمساك بخيط العمق الرؤيوي للحدث في القصة التي يكتبها، ولذلك أيضاً جاءت في بعض قصصه روح أخرى قريبة من الروح الساخرة ولكن بعفوية مذهلة.
يحاول الموسوي في هذه المجموعة التجريب قدر الإمكان، وكان واضحاً عبر تباين شكل قصص المجموعة أن هاجس التجريب في القصة كان حاضراً بقوة لديه، وكان واضحاً هذا أيضاً عبر قصص جاءت مشغولة بعناية وبدقة (عالم آخر)، (ابتسامة خضراء)، ولكن بالرغم من الإشتغال على شكل القصة الذي ميّز المجموعة، وميّز نصوصها إلا أن الموسوي كان يحفر بعمق أيضاً في أكثر من اتجاه فكري، وقد أكون مخطئاً لو ذكرت بأن هذا التشظّي في الطرح بالرغم من أهميته للموسوي كقاص، إلا أنه أثر على المجموعة بشكل ما، خصوصاً وأن كثير من قصص المجموعة كانت ثمة ارتباطات مهمة فيما بينها، لو تحرّى الموسوي صياغة المجموعة كلها ضمن خيطها لكانت أكثر اكتمالاً بالتأكيد، وأهم هذه الخيوط التي لملمت المجموعة كان خط الموت الذي لعب عليه الموسوي بأشكال مختلفة ومدهشة، في قصص مثل (ضيفة الله، عالم آخر، ضجة قلبية، ابتسامة خضراء، مثنى و..، خادم الدود، ماذا أقول لمريم)، ولو بوّب الموسوي مجموعته إلى بابين أو ثلاثة، ربما لكان التلقّي لموضوع الموت في المجموعة أكثر اتصالاً مما هي عليه.
فالموسوي لدى اشتغاله على فكرة الموت، كان يعالج هذا الكائن بروح قلقة ومتسائلة، وفي كل قصة كان ثمة اشتغال عميق على السؤال الذي يطرحه النص، ففي ضيفة الله، كان ثمة الموت الداخلي، الحياة في الموت أو الموت في الحياة، وصفية التي يتساءل أخوها عنها، ويطرح هو أسئلتها في شكل واضح للاستلاب القريب من الموت، فغيّب الموسوي صفية خلف شخصية أخوها بالرغم من كونها حية (تقريباً) ليضاعف لدينا فكرة الغياب أو الموت لدينا.
وفي عالم آخر نجد الاشتغال معاكس تماماً إذ يحضر الميت ليدلي بشهادته على عالم الأحياء، عبر راوي طفل يتذكّر كيف أراد أحدهم أن يؤذيه، وفي وصف متصاعد ودقيق استطاع الموسوي أن يأخذنا بقوة وبعنف إلى آخر القصة حيث نكتشف أن الراوي الذي كنا نبحث عن خلاصه، كان قد فارق الحياة أصلاً، وهي تقنية جميلة مارسها الموسوي أيضاً في قصته ابتسامة خضراء، وإن بشكل أكثر شفافية، وذلك عبر لغة هادئة تشبه المشهد السينمائي الطويل الذي يرصد تفاصيل كثيرة في لقطة واحدة تمتد على مدى زمني معين، ولكنه في ابتسامة خضراء آثر استخدام تقنية الراوي العليم، كما كان تعامله مع المفردات والأشياء في قصته هذه أكثر ذكاءً إذ كان لاستخدام السلم أثراً موسيقياً هادئاً في انسيابية القصة، وكذلك فعل مع حركة الصبي أحمد مستفيداً من الجمل القصيرة الواضحة والأفعال التراتبية، والقصة بالرغم من قصرها إلا أنها كانت علامة فعلاً في المجموعة، بجوّها الناعم والذي يفضي تماماً لما يريد له الموسوي.
في ضجة قلبية كان الموسوي أكثر اقتراباً من روح قصص المجموعة الأخرى، تلك الروح الساخرة، شديدة الحساسية تجاه التقاط التفصيل والبناء عليه، وربما لذلك كانت هذه القصة تلعب بين مشهدين مشهد الدفن والمأتم ومشهد آخر يرسم حياة (الخال عبد الهادي) الذي يحاول الموسوي فيه تصوير انكساراته وخيباته المتتالية، بشكل حاد جداً وكأنه لا يلوّن المشهد بل يرسمه بقلم جاف، دون أن يضع عليه كثير من التفاصيل، وربما هو بذلك يريد أن يلغي تعاطيه الإنساني ككاتب مع الشخصية، وهو الأمر الذي نجح فيه الموسوي، ونجح كثيراً في جعلنا نشعر بحيادية الموت، عبر حيادية الحياة التي رسمها لعبد الهادي، وفي هذه القصة أيضاً استخدم الموسوي تقنية جميلة في نهاية القصة، ويتضح منها ومن كثير من القصص في المجموعة قدرة هذا الكاتب على التعامل مع الأشياء بصورة مذهلة، فالسيجارة في ختام القصة، التي تسحق كصرصور، استطاعت بخبث أن تلخّص القصة في لقطة ذات كثافة عالية، كما أن الجمل الفعلية القصيرة (سحقت بقايا السيجارة/ انتهيت منها/ ألقيت بها في الشارع/ فركتها بقدمي) سارعت تماماً من وتيرة الراوي وأحدثت هذا الضجر الذي وصل له في نهاية القصة، ما هيأنا لتلقي جملته الأخيرة (انتبه لقلبك.. إنه يموت ضجة ولأننا في زمن الصم، لن يسمعك أحد).
هي فقط قصة (خادم الدود) التي شعرت بأن الموسوي تعجّل في بنائها، فبرغم جمالية الفكرة، إلا أنني واتكاءً على ذهولي من القصص السابقة والإشتغال التقني والفني فيها، رأيت أن الموسوي كان من الممكن أن ينجز أكثر فيها لو أنه جلس إلى القصة بعمق أكثر، كما فعل في القصص السابقة، وبالرغم من هذا ففكرة أن يتذمّر (ملك الموت) من شتائمنا له، وفكرة أن يلعب ملك الموت دور (الموت الرحيم) كانت مدهشة بحدّ ذاتها، وجميلة وساخرة بذات الهدوء والعفوية التي اصطبغت بها قصص المجموعة.
بقي أن نشير إلى لعبة مفاتيح النصوص التي استطاع الموسوي فيها أن يؤكد على الفارق فيما بين الاشتغال اللغوي للنص القصصي والاشتغال اللغوي كلعبة أدبية، فالموسوي بذكاء مكثف ومختزل بصرامة، استطاع أن يقنعنا من تمكنه اللغوي خلال هذه المفاتيح، كما أنه استطاع أن يوضح لنا وجهة نظره تجاه اللغة في النص السردي، حيث تتكئ المفاتيح على لغة باذخة ومكثفة، وشعرية في بعض الأحيان، فيما تذهب النصوص السردية في لعبة السرد بحدّ ذاتها، دون الاتكاء المبالغ على اللغة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق