أنظر في المرآة، فلا أرى سوى ظل، ظلٌ بائس ومعوجّ، أسمر تماماً كإغماضة، باهت ومرقّع، قد أخمّن أنه مبتسم، ليس عن معرفة حقيقية بالتأكيد فهو ليس سوى ظلٌ لا ملامحَ له، ولكني ألاحظ كيف أن هذه الكرة المثقوبة فوق كتفيه راضية تماماً، وهادئة كحفنة تراب.
ليس ظلي بالتأكيد إذ ما دمتُ لستُ موجوداً فلا بد أن لا يكون لي ظل، لم أعرفني حقيقة لأجزم أن هذين الكتفين المرتخيين ببلاهة ليسا لي، ولكن أنا أتعامل مع الحقائق، أنا إنسان علمي تماماً ولا أؤمن بالخرافات، ولا يمكن أبداً أن يكون ثمة ظل لشيء ليس موجوداً، هذا منافٍ تماماً للمنطق الذي أفتخر أني أقيس به كل شيء في حياتي.
ظل من إذاً هذا الذي على المرآة؟ ينظر إليّ وكأنه يعرفني، وكأنه يريد مني أن أحتضنه، وكأننا صديقان قديمان، بالطبع ليست له عينان، ولكني أتخيل أنه لو كانتا موجودتان حقاً، هنا بالضبط.. بين هذين الأذنين الكبيرتين اللتين تجعلانه يبدو غبياً بعض الشيء، لو كانتا حقاً لرأيت بعض الدموع تتصبب منهما، ولكنه ليس سوى ظل.. ولا يمتلك دموعاً، ولا عينين أيضاً، وبالرغم من ذلك يبدو شكله مألوفاً.. على الأقل شكله الخارجي، أنا أيضاً حين أنظر إليه أشعر بحنينٍ غريب، أشعر أنني عرفته منذ زمن، أشعر أنني..
ولكن من جانب آخر، مادمت أنا الذي أحدق في المرآة فلا بد أن يكون هذا ظلي، أنا مؤمنٌ بالمنطق تماماً.. لأعد من البداية، أنا الآن أقف قبالة المرآة، وفي المرآة ليس أنا، في المرآة ظل، ولكن أيا يكن الذي في المرآة فلابد أنه انعكاس عني، أجل أجل.. ها أنا أصل.. ولكن قبلاً، كيفَ ينطبع الظل على المرآة؟ العملية معقدة جداً، إن كنتُ أنا ظل، فلابد أن لي جسم آخر يصطدم به الضوء ثم يخلف ظلاً هو أنا، ولكن من هو جسمي الآخر؟ ولماذا لم ينعكس على المرآة؟
أصبح الأمر أصعب الآن، ليس لغزاً، والمفترض أن لا يكون كذلك، لا يمكن أن نجعل من مسألة وقوف الرجل أمام المرآة ليحلق ذقنه لغزاً، ولكنه كذلك بالنسبة لي، ليس فقط اختفائي عن الظهور على المرآة، ولكن أيضاً وجودي كظل لشيء غير موجود.. أنا مؤمن بالمنطق تماماً، ولا يمكن أن أصدّق هذا الهراء الذي أقوله، لابد أن ثمة تفسير منطقي لكل ما يحدث، وعليّ أن أعود منذ البداية..
أنظر فلا أرى سوى ظل،
قد أخمّن أنه مبتسم،
ليس عن معرفة حقيقية بالتأكيد
فهو ليس سوى ظلٌ لا ملامحَ له،
ولكني ألاحظ
كيف أن هذه الكرة المثقوبة فوق كتفيه
راضية تماماً،
وهادئة كحفنة تراب..
وهي أيضاً أنا
حين أنظر إلى الحائط
ولا مرآة معلقة عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق