إن اختيار يوجين يونسكو للمسرح كأداة للتعبير عما يجول بذهنه من دون سائر الأجناس الأدبية الأخرى لم يأتِ اعتباطاً أو عن طريق المصادفة, فهو قبل أن يكتب المسرح كان قد مارس أجناساً أخرى من فنون الأدب, ولكنه اختار المسرح ليعبّر من خلاله عن كل ما يريد أن يقوله بأصوات الآخرين من شخصيات مسرحياته.
ففي مذكراته يؤكد يونسكو بعضاً من هذا حين يقول: (إن شخصياتي المسرحية ليست دائماً أنا .. بل هي أشخاص آخرون, قدمن نبت خيالي, وقد تكون صوراً كاريكاتورية لي, وبمعنى آخر ما أخشى أن أكونه وما يمكن أن أكونه ولم أكنه لحسن الحظ.
ولعلّها ليست سوى جانب مكبّر من نفسي أرثي له وأضحك منه, أحبه وأبغضه, وقد تكون في بعض الأوقات شخصيات أحب أن أكونها, وهي نادرة, كذلك فهي في بعض الأحيان تجسيد للقلق أو أطياف أحلام).
وهكذا في هذا الاعتراف الضمني يذكر يونسكو كيف تدخل الهواجس والأحلام والمخاوف الشخصية ضمن بناء مسرحياته, ورغم أنه ليس بالاعتراف الهام, إلا أنه يوضح كيف تتمثل هذه الهواجس لشخصيات عندما تتكوّن وتخلّق ضمن نص (مسرحي) بالذات.
حيث تكون متحركة وطليقة وليست مربوطة إلى صوت راوي كما قد يحدث في الرواية, وليست كذلك وحيدة وباردة كما قد يحدث في الشعر.
ولعلّ مسرحاً طليعياً وعبثياً كمسرح يوجين يونسكو هو الآخر خياراً ملائماً لهذا التعبير عن الهواجس والقلق الذاتي باعتبار (الحلم) كتمثّل لهذا القلق والهواجس أحد أهم علامات مسرح يونسكو.
ولكننا هنا أمام هذا النص ليوجين يونسكو (المستأجر الجديد) نراه يؤكد في بداية إرشادات المسرحية على واقعية الأداء على الأقل في بداية المسرحية وفي نهايتها, وكأنه يفرض حلقة من الواقعية عليها وعلينا.
الإحلال .. التغيّر اللا محسوس
يصوّر يونسكو في هذا العمل المسرحي مستأجراً جديداً جاء ليشغل الحجرة الفارغة في إحدى البنايات, والتي فرغت لتوّها كما يأتي على لسان الحارسة.
بعد ذلك يحضر النقّالون بالأثاث حيث يبدؤون بتصعيده للدور السادس الذي توجد فيه الشقّة, ويشغلون كل حيّز في الحجرة بالأثاث.
وبطلب من السيد (المستأجر الجديد) يسدّ الأثاث كل مدخل للنور والهواء في الحجرة بعد ذلك يعلمنا النقالون أن الأثاث قد سدّ السلم والشارع وعطّل حركة المرور بل لقد ( أربك البلد كله) وسدّ نهر السين ما منعه عن الجريان (فلم يعد هناك مياه).
كل هذا الأثاث الجديد والضخم لم يكن ليدخل من باب البناية, لولا أن السقف الأوتوماتيكي للبناية يفتح تلقائياً عند التصفيق, فيدخل النقالون من السقف كل هذا الأثاث الذي يمثّل تلك الحضارة المادية القادمة على أنقاض (زمنٍ كهل كان يقطن هذه الحجرة سابقاً).
قد يُستشعر في هذا النص المسرحي موتاً للإنسان, ودفناً لقيم الإنسان (المضيئة) في أكوام من المادة ومن الظلمة, وقد يُستشعر التشاؤم الذي اكتسى به هذا النص المسرحي (المستأجر الجديد) وهذا الحفل الجنائزي المسرحي للإنسان الذي يأتي جاهزاً للموت.
ولكن هذا الإحلال الظلامي للحجرة, يلوّح بتأويلات أخرى أيضاً حين نلاحظ هذا البطء والتمهّل في نقل الأثاث.
وحين نرى أيضاً تلك الصورة الغرائبية والمعكوسة في استشعار ثقل الأشياء من قبل النقالين.
وكأنَ ثمة موتاً منظماً هنا:
(السيد: لقد عُمل حساب لكل شيء..)
هذا الموت الطبيعي الذي يحمل بذرة موته في انتقاله الجديد, وهنا يدخل صوت المؤلف في سخريته من هذا العالم المادي الذي (يعمل حساباً لكل شيء) ناسياً أو متناسياً موقعه الحقيقي على الأرض:
(السيد ألم يكن هناك حجرة خالية بالطابق الأرضي؟)
العتمة والتوحّد
لعلّ شخصيات يونسكو تتميّز دائماً بقدرتها على التباين فيما بينها مما يعطي مسرح يونسكو حالة من التصادمية الخفية أحياناً والظاهرة أحياناً أخرى بين الشخصيات.
ولعله استقى هذه الحالة من التصادم الفاضح بين شخصياته من حياته هو شخصياً لدى تجربته هذا النوع من التصادم بينه وبين كل ما هو أيديولوجي وشمولي في رومانيا حيث نشأ.
ولذلك تأتي هذه المواقف التصادمية المتصاعدة غالباً في الحوار في مسرحياته, ودائماً ما يُبرز هذا النوع من التصادم في الحوار في مسرح يونسكو حالة ما يتكرّس هذا الحوار المتصاعد (والشيّق) فيها.
وهنا في هذا العمل يبرز هذا التصادم في الحوار عبر (ثرثرة) شخصية الحارسة و(صمت) السيد, أو اختزاله المبالغ في استخدام الكلمات.
ذلك اللا تفاهم القائم بين ثقافتي المادة/الروح وذلك من خلال تعلّق الحارسة بالعواطف وتمسّكها الدائم بالوصف الطبيعي وبالمحاولة الدائمة لإنشاء العلاقة مع هذا القادم الجديد.
ومن خلال الرفض الذي يبديه السيد واستغنائه التام عن كافة خدمات الحارسة (العجوز) وتجاهله التام لها.
إن تصوّر المسرحية بدون دور الحارسة وبون استثارة الطاقات التأويلية لهذه الشخصية, هو ما قد يذهب بالتأويل التشاؤمي مذهب التأويل الرئيسي للمسرحية, غير أن إدراك فاعلية هذا الدور, وفاعلية الحوار التصادمي بين الشخصيتين يعطي كوّة أخرى للنظر منها للمسرحية.
الحجرة القديمة .. المستأجر الجديد
يُعدّ المكان أحد أهمّ أعمدة لعبة يونسكو اللا معقولة في كونها تمثل -الحلم- الذي يواجه به يونسكو عبثية هذا الواقع وماديته, فيتخذ من خلاله بالإضافة للحدث اللا معقول والشخصيات المستفِزّة والمستفَزّة دليلاً يفضح به الطبيعة القاسية للواقع المادي والعبثي.
فالمكان لدى يونسكو هو مكوّن رئيسي من مكوّنات الشخصيات لديه, وحسب ما يرى فإن المكان يفرض أنظمته على الشخصية, ويفرض قوانينه التي يجب أن تتبّعها الشخصيات لديه, والشخصيات التي لا تتبع قوانين المكان الذي توجد به والتي تحاول التمرّد على المكان أو تغيير نظمه ورفض قوانينه فإنها تُطارد كما في ( الخرتيت) وتُنفى كما في (جاك) أو تُقتل كما في (لعبة القتل) .
فالمكان غالباً ما يمثّل لدى يونسكو سلطة تفرض وصايتها دائماً على المقيمين فيه, ولذلك فهو في هذا العمل يمثل ذلك الفراغ في السلطة, أو الحيّز الفارغ منها والذي لابد أن يملأ في أقرب وقت :
الحارسة : من حسن الحظ أن السكان الذين كانوا هنا قبلك نقلوا كل شيء في الوقت المناسب.
وبينما تتخذ السلطة الجديدة دائماً موقعها في المكان الذي حظيت به, فإن يونسكو ينظر لهذا الإحلال في منح السلطة لهذا القادم المادي الجديد خراباً كبيراً, وذلك عبر عدد من حوارات الحارسة التي تُنذر بهمجية هذه السلطة الجديدة :
1-آه عجباً .. يغررون بنا, ويمنوننا بكل شيء.. ثم لا يبرون بوعودهم
2-إنهم يشترون كل شيء بالمال.
3-يعرضون علينا كل شيء مخجل فاضح.. مقابل النقود.
وهكذا تتضح صفات هذا القادم الجديد (على الأقل في ذهن الحارسة.. إن أردنا أن نصدّقها) كزمن بديل لزمنٍ عجوز ماضٍ.
وهكذا أيضاً يتخذ الزمان موقعه في المكان, ولكن وحسب ما يرى يونسكو فإن هذا القادم الجديد لا يؤثث سوى قبراً له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق