في المجموعة الرابعة والأخيرة الصادرة عن دار مسعى وبغلاف أنيق ومميز للفنان البحريني جعفر العريبي يفرض مهدي سلمان نفسه وبقوة على مائدة الحضور في المشهد الشعري لجيل الشباب للشعراء البحرينيين، حيث أقام مركز عبد الرحمن كانو أمسية شعرية مميزة لهذا الشاعر الجواني، إذا صح التعبير، ذي الصوت الخاص كما أفترض والذي أضاء فناء روحه الداخلي ودعانا إلى وليمته العارية، حيث دخلنا بهدوء على رؤوس أصابع الشغف ليغوينا بقصيدته الأولى المفاجئة بارتباكها ويُدخلنا عبرها امتحان الجمال ويصعقنا باحتمال النشوة. هذا النص كان بعنوان (تتفقدها تستريب به) إذ ثمة امرأة كانت هناك تحمل أسئلتها الكثيرة وشكواها من ذنب لم تقترفه، تجاه رجل خدع حدسها البسيط بالأشياء... وفتتها. وهو من أروع وأجمل النصوص بالمجموعة، وكانت بداية لافتة وذكية كي تشد جمهوراً ينتظر قولاً مختلفاً كي يتنفس صعدا الجمال.
قدم الشاعر في هذه الفعالية تقديماً ممتازاً وكالعادة الأستاذ كريم رضي، الذي أشار بإصبع الانتباه إلى مكامن الاختلاف والتمايز في شعر هذا الشاب الثلاثيني، والذي كرس اسمه من بين أحد أفضل الشعراء البحرينيين الشباب وأكثرهم تألقاً، ونحن نوافقه عبر رهان كسبه (أي الشاعر) كما هو متوقع على حد كريم رضي.
توزعت المجموعة مشاغل هذا الشاعر القلق... ارتياباته، ومؤرقاته، وبدت في قراءته لنا بعض مقطوعاته متمحورة حول المرأة وأشيائها المنسية وغيابها الذي ترك ضوضاء الصمت، والآخر... وعلاقة الشاعر به كصديق ومختلف عنه ومرآة تعكسه أولاً (ربما). الموت حضر كذلك وفلسفته وعقلنة حضوره ومحاسبته أيضا إن أمكن...! الخيانة والخديعة المتأتية من قاتل طيب يحنو عليه هذا الشاعر بنبل لا يحسد فيه على تماسك أعصاب وحكمة تخصه وحده. الحب أيضاً بدا هنا هائماً غير مؤكد ولا مخلّص كما اعتدناه عند آخرين. وأخيراً الشعور بالاغتراب والانخلاع عن الواقع بزمانه ومكانه المحددين، وذاك الأسى الشفيف في تجربة العيش والوجود، مستخدماً في نصوصه تلك تقنيات مختلفة مبنية في بعضها على حوارات قائمة في متن أكثر من نص في المجموعة. نص مهدي سلمان يقول شخوصه التي تتبدى في حوارات قصيرة مقتضبة، نلمس من خلالها عتمة تبطن ذاكرته، لا يراها إلا من يود أن يتحسس ولا يتسرع الخطو فيدوس ما يجب أن يُتَجنب.
يقترب مشهده (النص) من التعضي ولمس الحياة من لحم ودم حين تلح عليه الحكاية بتفاصيلها الأهم المنتسبة إلى الواقع المعاش لا المفترض فنرى مثلاً في نص (تحديق) رجلاً وامرأة يهدمان سرير الذكريات، ويتقاذفان أيامهما كالوسائد دون مرح... لتبقى الذكرى التي تجهد تنظيف إطارها بعد فوات وقت لا عودة إليه.
يرسم هذا الشاعر لنا في نصوصه الأخرى تشظي الكائن وتشتت مشاعره وخصوصاً عبر نص (محض حيرة) وقد تبدّى الخيار الصعب بين عمرين، وشهوتين، وقلبين... لنرى هنا الكائن المتعدد وربما المنقسم على نفسه بين المجازفة والتهور، والخائف المرتعش حذر المخاطرة والإقدام يمضي في أسئلته وحيرته ولا يشفي غل الفضول ورغبات الضد فيه.. وربما التآلف حتى التناقض.
يبدو مهدي سلمان في مجموعته مُخلصاً لحيرته، ولمشاعره التي يتوزعها ويرسم أيضاً أسئلتها.. وذاك الذي يعمل بين الكائن وآخره فيشكل ضجراً وربما قتلاً على هيئة خنجر مفضض معقوف من أسفل السم لقاتل طيب، لا يملك حياله سوى أن يمسح الدم الذي سال و.. ينحني مصلياً لمن ذبح بإتقان متمرس انزلاقه المفاجئ حتى العنق.
إذاً؛ منديل برتقالي لمهدي يُظهّر لنا به المشهد، ويقترب من الكائن الذي يراقبه.. يراقب خوفه وقلقه وحذره الحيواني البريء من زاوية أخرى لصديق يدخن بشراهة ماضيه معه ليثمل هو (أي مهدي) به.. كأنه يتمنى أن يكون في حياة أخرى لم يعشها أو يختبرها.
مسكون هذا الشاعر بالدهشة، دهشة الاكتشاف هنا في (أترك بابك مفتوحاً) بقصيدة لسواه والتي تشكّل من زئبق كلماتها صديقاً التقطه ذات صدفة عيش، ليتحدث فيها هذا الأخير وسط فوضى تسحق روحه ولتفر جواميس مذعورة من قلبه الذي يتقاذفه صبية لا يحبونه البتة ودائماً بلسان قارئه الشاعر هنا.
مهدي هنا يمد يده ليتناول من كيس الآخر.. تفاصيله لربما كي يفهم وجهه هو. والذي استوقفه محدقاَ بعينين مذعورتين لحقيقة لا يودها أن تغلق الباب، وتضيع مفتاح الصفح.
ولا ينسى مهدي أن يثير في نصه قضيته الأبرز وشاغله الأول ألا وهي الموت في نص (ثقاب أخير) معلناً استسلامه له، ولكن ليس عبر الراضخ الذليل بل من جهة التعاطف والشفقة مع مهمته الصعبة حين يتساقط عرق ندمه عن جبين الخجل. ذاك الموت الذي يقذف دفء أيامه إلى النهايات. يقول في وجع صارخ (أيها الموت يا أقحوان الفجيعة، يا صاحبي، يا أنا كامل بك، يا أنت مختصر فيّ، يا شخط عود الثقاب الأخير على مشط ما لست....) يعلن مهدي هنا عدم تحديه لهذا العاصف الجبار.
ينسحب مهدي سلمان من العالم نحو ظل يختبئ به ، لنموت نحن في حسرتنا فهو كما يقول ليس صياد موتى وليس الفريسة أيضاً، معلناً عبر هذا الانسحاب عن غياب يتنبأ باصفرار ليمون عمره وهذا الشلل الذي يصادر الإرادة إثر معرفة ما كانت يجب أن تكون ، محاولاً عبر الكلمات فقط خلاصاً مستحيلاً يدرك سماءه المغلقة، ذات السماء التي ستكنس كل شيء، الأخطاء ومن معها.. وهو سيترك لنا خلفه قصيدة يعم صوت مائها في صمت المكان كطلقة.
هذا المشهد الكوني الضاج بالفراغ والعبث واللامعنى ينسج لنا الرواية، والتي تستحضر في ذاكرتها المشدودة بثقل وجع وعناء هذا الوجود، وعسر العيش، حيث لا تملك قامة تنخفض بكبرياء أقل، أن تفسح لكل من يعبرها اندفاعه الشرس، باتجاه السقوط الذي تراه مُسبقاً، والذي تبصره بعينيها المغمضتين هازئة ساخرة.
مهدي يرانا في نصوصه ويرى نفسه كثيراً أيضاً. يحدق فوق.. ويتفهم. وربما أحياناً يتساءل وربما بلحظة أخرى يتهم. يرى المشهد الكوني مبسوطاً أمام ناظريه، ويعتكف الزهد بالفعل حين يُسقط في يد الإرادة، ويشلها العبث واللاجدوى.
يقول في نص له (من يلوم الغريب إذا غفا / فوق دفتر أشعاره/ ونسي موعد الشاي والشعر والموت في جيبه) هوذا ذهول هذا الكائن الذي يعبر ماسحاً بضوء فهمه الساهي الدور واللعبة والمعنى. نصوص قصيرة بحالة مكتملة من حيث تصاعد الحدث، والإفصاح عن الأبعد، والأعمق، دون أن تقع في شتات التفاصيل والصور المراوغة.
أخيراً نستطيع أن نرى أن مجمل النصوص تراوحت ما بين الطول والقصر بنسب متقاربة. المعنى فيها مُقتضب، والشذرات التي صيغت في النهاية والتي تشي بتكثيف لغوي وذهني لامع نجحت في جزء لا يستهان به في اضفاء ختام ذي أثر.
كل هذا التكنيك ساهم برأيي في اتساع فسحة الإمتاع عبرهذا التنوع الثر، بالإضافة إلى محاولة التخفف من لعبة اللغة، أو اللجوء أحياناً إلى البسيط من المفردة، والاقل تقعراً. هذا ناهيك عن تقليص مساحة بعض النصوص عبر حوارات مضبوطة كانت تميز نصوصا سابقة للشاعر وما زالت، وتترك أثراً من الصعب محوه..
الآن لدينا نصوص أكثر رشاقة وأقل تكلفاً تحمل معاني عميقة لا تتنازل عن الذكاء والمتعة وتسأل أسئلتها الكبرى التي لطالما شغلت صاحبها وأقلقته.
نقول أخيراَ أن مهدي سلمان وُفـِّق في مجموعة لن ننساها بسهولة، كان فيها هادئاً وحكيماً حيث استزاده الحضور نصين لا يقلان جمالاً عما ألقاه. ذات الحضور الذي صفق مراراً واستعاد مقاطعاً، وهو ما أضاف للأمسية مناخ ساده التفاعل وهذا ما لا يحدث كثيراً فيما نحضر عادة من فعاليات، حيث حضر عدد ليس بقليل من محبي ومتذوقي هذا النوع الأدبي الصعب والنوعي.. ونقصد الشعر طبعاً.
كاتب من سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق