نازك الملائكة |
ذات سؤال أثارت الراحلة نازك الملائكة قضية مفهوم الحرية في التعامل اللغوي في الشعر الحديث في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، وقتها كانت نازك تبحث عن حرية جميلة، حرية لا تسطو على الآخرين، لا تقيّدهم، لا تسرق من اللغة جمالها وقدرتها، بل تضيف إليها، حرية تمنح الشاعر مقدرة على التعاطي مع اللغة كمحيط وحضن، لا كقيد يُكسر أو يمزّق، وهذا التعامل مع اللغة استثمرته الشاعرة في كتابتها الشعرية، بل هو أيضاً ذات التعامل الذي خرجت من خلاله على عروض الخليل عندما كتبت قصائدها، والذي اشتغلت عليه في كتابها السالف الذكر من أجل إبراز وإظهار طاقة التفعيلة في خلق فضاءات جديدة في الشعر العربي.
نازك الملائكة، التي تعاملت مع اللغة والشكل الشعريين بهذا الصفاء الواضح والصرامة أيضاً، تعاملت في بقايا قضاياها بذات الطريقة، إنها دائماً ما تشترط الحرية التي تريدها، ولكنها أيضاً تشترط على هذه الحرية شروطها الخاصة، وعندما تفقد هذه الشروط مصداقيتها، لا تستطيع نازك الملائكة إلا أن تكون نازك الملائكة وترفض، وربما لهذا فرضت على نفسِها قيود من الصمت، بل وقيود المرض أيضاً، روحٌ كهذه متحفّزة دائماً لهذه الحالة من الحرية المشروطة، لا بدّ لها أن ترفض القيد.. أيّ قيد، وأن ترفض الحرية أيضاً إن لم تكن بحسب مقاييسها وشروطها.
يذكر الشاعر جهاد فاضل في إحدى مقالاته كيف كانت الشاعرة تتحدّث عن القضية الفلسطينية ويعدّ فاضل هذا الألم الذي رافق حديثها كجزء من أوجاعها التي أفضت بها إلى هذا اليأس والصمت، ويذكر أن أسباب أزمة الشاعرة النفسية كانت عدم قدرتها على مواجهة إحباطات التاريخ العربي الحديث.
إن اختيار الملائكة للصمت والركون إلى اليأس هو خيار شعري بالدرجة الأولى، وطريقة احتجاج خفية لا على أحد سوى على ذلك الأمل الذي تعلّقت نفسها به، لأنه مثلما كان خيار خليل حاوي، خيار رفض لاشتراطات غير الإشتراطات التي يرتضيها الشاعر لذاته.. الحرية المشروطة باحترام الإنسان لذاته وللآخر، أياً يكن هذا الآخر، أكان إنساناً أو كائناً أو لغة.
رحلت نازك الملائكة لأنها مثل كل الشعراء.. غير قادرة على العيش في زمنٍ مثل هذا الذي نعيشه، ولم ترحل الملائكة الآن، لقد رحلت منذ أن اختارت الصمت واليأس.. منفاها الإختياري الذي ارتضته لنفسها، بعيداً عن زيف وكذب هذا التاريخ العربي القبيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق