عبارات كثيرة تستخدم عادةً بحكم العادة، لا لأنها تمثّل توصيفاً دقيقاً أو غير دقيق لحالة ما، ولا لأنها تستطيع استفزاز دلالات محددة في ذهن الكاتب أو (القائل) يريد أن يشي بها للمتلقّي، ولا لأنها تدخل ضمن السياق الفعلي لجملة من الجمل، لا لأنها تمثّل قناعاتنا باتجاه أشياء محددة، ولكن فقط بحكم العادة.
وقد يكون لجمالية الكلمة ورنينها أثر في اختيارها دون أن يمعن القائل في ملائمة هذه العبارة أو تلك للحقيقة أو على الأقل للقناعة الفعلية له، ودون أن يُدخلها في عملية من التفكير والمسائلة قبل إطلاقها، لذلك فتأتي العبارة صادمة للمتلقّي، محملّة بكثير من الأسئلة حول صدقية هذه العبارة، وما تمثّله من إطلاق حكم ما أو توصيف لحالة ما أو إشارة لأمرٍ ما.
من بين العبارات التي تُستخدم كثيراً لتمرير مبدعٍ ما على أساس أنه مبدع متميّز عبارة (تجاوز المنجز) التي قد تشكّل نوعاً من الصدمة عندما يُدخلها المتلقّي إلى سياق التساؤل الطبيعي الذي تفرضه عملية التفكير في ما يُقال، عبارة مثل هذه، لا بد وأن تثير أسئلة مثل ما هو هذا المنجز الذي تجاوزه هذا المبدع، هل هو منجزه الذاتي أم المنجز بشكله العام، أم هو عدد من المنجزات في ما بين هذا وذاك، وما هي حدود هذا التجاوز، إلى أين يصل هذا التجاوز.
إن إطلاق حكم مثل هذا على عملية إبداعية قد يكون عسيراً لو أنه وضع رهن بهذه الأسئلة، ولكن ولجهوزية العبارة (تجاوز المنجز) ولرنينها الجميل في الأذن، فلا يتسائل القائل عما تشكّله هذه العبارة أو هذا التوصيف والحكم من إبهام قد تسببه في ذهن المتلقّي.
هذه العبارة وكثير من العبارات غيرها مما نستخدمه كثيراً لإطلاق أحكام أو توصيف حالات، أو الإشارة إلى أمرٍ ما لابدّ أن تدخل في عملية من التنقيح والفحص، حتى لا نضع آرائنا رهناً لجمالية العبارة، وحتى لا نضع أحكامنا رهناً لسياقات (جاهزة) (أنجزها) غيرنا ونحاول استخدامها دون الركون إلى مبررات حقيقية وفعلية في استخدامها.
وليست العبارات الإيجابية فقط هي التي نسمعها كثيراً تُردد دون أن توضع في إطارها الخاص، بل حتى العبارات السلبية -ولنستخدم أيضاً عبارة تشير إلى العملية الإبداعية- وهي عبارة (يكرر ذاته) فغالباً ما تُطلق هذه العبارة على المبدعين الكبار (في العمر والتجربة)، فنقول فلان يكرر ذاته، أو يجترّ منجزه، غير عابئين فعلاً بما قد تعنيه هذه العبارة في حقيقتها، وبما إن كنا فعلاً نُطلق هذا الحكم بشكل مدروس أم أنه حكم مطلق، فما هي دلالات هذا التكرار أو الإجترار، ثم ما الذي نريدُ لفلان أن يفعل حتى لا يكرر ذاته، هل فعلاً درسنا طبيعة الإبداع فأدركنا أن (أ) يكرر ذاته و (ب) لا يكرر ذاته، أم أنها أحكام عامة تُطلق دون أن يكون لها ما يسندها حتى في أنفسنا وهي ليست سوى عبارات (جاهزة) نطلقها بشكلها العام لتوصيف جزء خاص من تجربة أحد المبدعين.
هذه اللغة ساحرة، ولذلك ربما يكون علينا أن نحذر في التعامل معها، لأنها تقولب بعض العبارات الجاهزة ذات الطبيعة الرنانة والساحرة، والتي تحتوي على الكثير من اللبس لو عرضت بشكل دقيق على منظور الفحص والتدقيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق