(كرسي على الجانب، يجلس عليه الممثل وهو يقرأ (هذا النص المسرحي)
دون صوت، بعد لحظات ينهض الممثل ليواجه الجمهور).
|
مقدمة
مخترعة
الشخصية : مساء
الخير، أحب في البداية أن أرحب بكم في هذا العرض المسرحي الذي لا أتوقع أن تتجاوز مدته النصف ساعة، هذا بالتأكيد يعتمد
على حالة الممثل النفسية ومزاجه العصبي، لن أحدثكم عن العمل إذ أحب أن تشاهدونه
وتستمتعوا به دون أن يكون لكم سابق علم به، طبعاً قبل أن نبدأ أحب أن أوضح نقطة
مهمة جداً، هي أنكم بالنسبة لي كائنات مفترضة كما أنني بالنسبة لكم كائناً
افتراضياً، هذا أمر مهم في علاقتنا بالرغم من أنه أمر اعتيادي، لذلك يجب أن لا
يشعر أحد منا بالسوء منه، طوال هذه السهرة ستكونون كذلك في نظري، وسأكون كذلك في
نظركم، لن أرحّب بأحدكم أكثر من اللازم، جميعكم بالنسبة لي شخص واحد، سأخاطبكم
جميعاً بصيغة الجمع، بالرغم من أني أعرف أنكم لستم كذلك، فلكل منكم شخصيته
المستقلة التي يحب أن يخاطب من خلالها، ليست المسألة شخصية، ولكن هذه طبيعة المسرح
كما تعرفون.
أنتم بالطبع تعرفون (.........) الممثل الذي يقوم بدوري
في المسرحية، أقصد هذا الجسد، هذا الصوت.. هذا الانفعال، إلى آخر طاقاته المسرحية،
وهو أيضاً ممثل جيد إلى حدّ ما، وأنا حين أقول إلى حدّ ما فأنا لا أريد أن أسيء
إليه، فهو ربما يكون صديقاً لأحدكم هنا في هذه الصالة، المشكلة فقط أنني أشفق
عليه، فهو طوال النصف ساعة القادمة وطبعاً طوال ساعات يومياً من الشهرين الماضيين
أيضاً أجبر على تقمص شخصيتي بالرغم من تعقيدها، أو تسطيحها، هامشيتها، أو
مركزيتها، لا أدري.. أنتم تعرفون أن الهامشي أصبح هذه الأيام مركزياً، والعكس
بالعكس. وأنا حين أشفق عليه فلأني أعرف تماماً أنه أو غيره من الممثلين سيكون من
الصعب عليهم تجسيد شخصيتي، الملتبسة حتى عليّ أنا، لذلك فأنا أشكره بالتأكيد، لا
أريد أن أكون وقحاً، فهو في النهاية حاول قدر ما يستطيع، وأحياناً يدهشني كيف
يستطيع أن يفسر كلامي بطريقة غريبة لم أكن أقصدها بالمطلق. ولكني أستطيع القول أني
لم أكن مقتنعاً تماماً بأدائه، وأعلم أنه يتفهم هذا الموقف.
عموماً لسنا في مجال الحديث عن الممثل، إذ ربما يحدث
الحديث عنه لبساً بسبب تقمصه لشخصيتي أو فلنقل تقمصي أنا لهيئته، ولذلك سأحتفظ
برأيي فيه لنفسي، فأنا في النهاية هنا لا لأحدثكم عنه بل لأحدثكم عني أنا، أنا بطل
هذه المسرحية وهي بالمناسبة مونودراما، أي أنني سأكون وحدي أمامكم، ولكن ما
الفرق.. غالباً ما كنتُ وحدي أمام الجميع، أو معهم.. لستُ أتذمر، فأنا بطبعي ميال
للعزلة، ولكني أوصّف الحالة فقط، وقد يكون كثير منكم يعرف معنى الشعور بالعزلة،
كلنا نمر أحياناً بظروف تجبرنا على العزلة، وبعضنا يكون انعزالياً بطبيعته، وأنا
من هؤلاء البعض. (يجلس إلى الكرسي مرة أخرى، يصمت لحظات).
لم أختر العزلة، أعتقد أني لم أخترها، لا يختار الإنسان
العزلة.. إنه يلجأ إليها كحل أخير، في مقابل خيباته من البشر، هكذا أظن أني لجأت
إلى العزلة ولم أخترها، كنتُ ولداً ضعيفاً، لذلك فقد كنت محط سخرية الجميع
وتهكمهم، ربما يكون هذا ما جعلني شديد الخجل، وهو الأمر الذي زاد من سخريتهم بي،
الآن أتذكر الأمر جيداً، يدفعوني لأقع على الأرض.. ويضحكون، يسحلوني أمام المدرسة،
يسرقون مني الحقيبة ويفرغونها في الشارع، كيف يمكن لطفل مثلي وقتها أن يتحمل هذا
الإذلال. أجل.. أجل، لم أختر العزلة، كنتُ بالرغم من كل شيء في البداية أحب أن
أكون قريباً منهم، أسمع حكاياتهم، نكاتهم.. وأضحك عليها معهم، ولكن شيئاً فشيئاً
وجدت أنهم بدأوا يحولوني إلى نكتة، في البداية تحملت أن أكون النكتة في مقابل ما
أحصل عليه من دفء الضحك والفرح معهم، ولكن الأمر تطور بسرعة كبيرة، صرت النكتة
الوحيدة.. ولم يكن باستطاعتي أن أضحك على نفسي، لذلك بدأت أهرب، بعدها.. أقصد،
بعدها.. حسناً تحولت المسألة من السخرية والضحك إلى الإذلال، صاروا يجدون التسلية
الوحيدة لهم في إذلالي، وبطرق مختلفة ومبتكرة في كل مرة، ربط خيوط حذائي، ربطي
بالكرسي في الفصل، تبليل ملابسي بالماء.
عفواً.. لستُ هنا لأحدثكم عن تلك الأوقات المزعجة، ولكني
أؤكد لكم.. لم أختر العزلة مطلقاً، ولستُ أتذمر، ولنعد الآن إلى مسرحيتنا حتى لا
تأخذ وقتاً أكبر من الوقت المخصص لها، وعموماً مثل هذه المشاهد من ذاكرتي لا يمكن
أن تكون جزءاً من مسرحية، لا هذا الممثل ولا غيره قادرين على أداء تلك الشخصية
التي كنتها صبياً، لا هو ولا غيره قادرين على الشعور بالإذلال الذي كنتُ أحدثكم
عنه، لذلك أنا سأختار أجزاءً أكثر بساطة من حياتي.. تلك الأجزاء التي بإمكان ممثل
مثله أن يؤديها بسهولة، تصفقون له في النهاية ويمضي سعيداً بأدائه المميز، وأنتم
تكونون قد قضيتم سهرة ممتعة، ويغادر الجميع.. بينما أبقى وحدي أنا في هذه الصالة،
الأضواء مسلطة عليّ.. وأنا يملؤني الظلام.
(إظلام).
النص
الممكن
الشخصية : (يتكور في أحد الجوانب) غير معقول.. ماذا
تريد مني بالضبط؟ هذا الصوت في رأسي، هذا الفراغ
الكبير بين ما أنا عليه وبين ما أريد، ماذا تريد؟ قل لي، قل لي، قل لي.. ما الذي
تريده؟ ما الذي تبحث عنه فيّ؟ أنا لم أعد أصلح لشيء، لا تحاول أبداً، لا تحاول
إصلاحي، دعني هنا مركوناً مثل لا شيءٍ بالٍ ومهترئ.
صوتها : عندما لا تجد العالم من حولك كما تتصور،
أبداً لا تحاول تغييره، غيّر الذي فيك، خجول ربما، بارد وغير مكترث، (يَعْ) هذه
الصفات لا تصلح أبداً للدخول بك في معترك الحياة، بالتأكيد لن يقبل بك أحد، أنظر
إلى نفسك، أنت غير مهيأ أبداً لاستقبال العالم، عنيد كتيس، غبي وأبله، لا يمكن
أبداً، قل لي ماذا تريد مني أن أفعل لك، أعرف تماماً أن الظروف لم تسر كما ينبغي، ولكن
من هذا الذي سارت ظروفه دائماً كما يريد؟ أريد أن أنصحك فقط.. أنت الذي تغير
ظروفك، لا تلق الحجج على الآخرين..
أنظر جيداً إلى ماضيك، تعلم منه، رفض وسحل وتخلي
ومغادرة، ما هذا الماضي الذي عشته، ثم ها أنت الآن تواصل لعب نفس الدور، ألا تملّ؟
الشخصية : ليس
ذلك، ولكن.. ليس بإمكاني فعل شيء.. بالتأكيد أنت تعلم.
صوتها : أعلم ماذا؟ أنت على بعد خطوات، خطوات فقط.
الشخصية : خطوات؟ ولكن
صوتها : ولكن ماذا؟ ها أنت تريد أن تبرر الآن!
الشخصية : لا
أريد أن أبرر، أعلم أنها فرصة ثمينة للانتقام منهم جميعاً، أعلم أني الآن في لحظة
لا تعوّض، لحظةٍ أستطيع فيها أن أمحو كل ذلك الألم، كل ذلك الإذلال، عودُ ثقابٍ
واحد، نحيلٍ كدبلوماسي، وبرأسٍ معممة، وينتهي كلُّ شيء، كريم يحترق مع عائلته
النجسة، وسالم تلبسه القضية مثلُ خاتم، كأن القدر أعدّ لي كلّ شيء.. هذه الأوضاع
الأمنية المزرية، تغيّر سالم المفاجيء، ودخوله إلى العوالم الدينية السريّة منذ أن
رفضته سلامة، صرخات كريم قرب المسجد وتهديده لسالم بالزجّ به إلى السجن، غضب سالم
وتهديده كريم بإحراقه وعائلته.. يا إلهي، أأنت حقاً أعددت لي كلّ هذا، أياً تكن..
أنت أو الشيطان، فأنا لا أستطيع إلا أن أشكرك على هذه اللحظة الإلهية، هل أستطيع
أن أدعوها إلهية؟ أنا الذي طالما كنتُ بعيداً عن الله، أنا المنبوذ دائماً من كلٍ
من الله والشيطان، لم يرضَ بي أي طرف، كنتُ دائماً المهان من الجميع، ها هي لحظتي
تأتي كما لم أكن أتصوّر أبداً..
صوتها :
ومع هذا فما تزال متردداً.. (صمت)
الشخصية :
ماذا يعني أن نكون جميعاً في قرية واحدة، هل اختار لنا القدر هذا، أن نتربى سوّياً
رغم كل هذه التناقضات؟ زجاجة واحدة تختلط فيها رائحة ماء الورد بالنتن
والعفونة، ما هو المعنى الحقيقي لكل هذا؟
صوتها : لا
شيء
الشخصية :
ربما كان هناك سبب.. كنا نجتمع سوياً، أرى في عيني كريم ذلك الكبرياء المصطنع،
كأنه لم يكن منا، لهذا غضب كثيراً عندما وجد سالم يغازل سلامة تحت الدرج في بيتهم،
أرأيت كيف؟ سالم هذا وقح جداً.. في بيتها حاول تقبيلها
صوتها : قبّلها.. يجب أن تسمّي الأشياء
بمسمياتها..
الشخصية :
أجل، لقد غضب كريم جداً يومها، ولم ينس أبداً هذا الموقف، حتى عندما انخرط سالم في
الجماعات الوطنية والدينية السرية، اختار كريم أن يكون على الطرف المقابل.. اختار
ذلك لكي يثأر لشرفه..
صوتها :
اختار ذلك لأنه أراد ذلك.. لا علاقة للشرف بالأمر
الشخصية :
بلى.. صدّقني ثمة علاقة كبيرة للشرف، لم يستطع أن ينسى، حتى عندما كان يحاول
إقناعي بالإيقاع بسالم، كانت الرغبة في الانتقام هي محركه..
صوتها :
أنت قلت سابقاً، نظرة الغرور المصطنع في عينيه، تلك كانت محركه
الشخصية : لا
أدري، ربما السببين معاً
صوتها :
وأنت؟
الشخصية :
سلامة
صوتها :
كانت هي محركك؟
الشخصية :
أجل..
صوتها :
ولكنك تعرف أنها تحب سالم؟
الشخصية :
لا.. ليس تماماً، لم تكن.. ليست واضحة، ربما كنتُ..
صوتها :
ليس مهماً ما ترغب هي فيه، المهم أنك كنتَ ترغب فيها
الشخصية : هي
أيضاً كانت ترغب بي
صوتها :
حسناً.. لا يهم
الشخصية :
تعتقد أني كنت أتوهم؟
صوتها :
لا.. كنتَ تحلم
الشخصية :
أحلم؟
صوتها :
والحلم مشروع، لك الحق في الحلم بسلامة، شأنك شأن سالم
الشخصية :
أذكر حين بعث سالم برسالته الوقحة إلى سلامة، معي.. أنا، كان يريد مني أن أكون
مرسال الغرام بينه وبينها..
صوتها :
لكنك في المقابل أعطيت الرسالة إلى كريم..
الشخصية :
(يضحك) أجل.. لقد غضب حينها كثيراً، وذهب إلى المسجد مهدداً ومتوعداً، الغريب أن
سالم لم يتحدث وقتها أبداً، لقد انكمش في نفسه من الخجل، لم أعتد من سالم مثل هذا
التصرّف، إنه نزق دائماً وأهوج.. لم يعجبني يوماً
صوتها :
لماذا؟
الشخصية :
كان غالباً ما يسخر مني، يعتقد أني غبي، ولا أصلح لشيء، كيف يمكن أن ينظر لي بهذه
الطريقة، ثم يعتقد أني سأعاونه في تحركاته السرية؟
صوتها :
لم تكن تظهر له غضبك
الشخصية : لا
يهم.. الأجدر به أن يفهم، لا يمكنك أن تهين إنساناً ثم تطلب منه أن يعاملك
باحترام..
صوتها :
لك في المقابل جانب مظلم، جانب لن يستطيع سالم أو غيره أن يكتشفه
الشخصية : لي
أجل هذا الجانب
صوتها :
هذا هو الجانب الذي يجب أن تستغله الآن
الشخصية :
ولكن..
صوتها : ولكن؟ هل بقي في الأمر ولكن.. مابك؟ لم
تراخت يداك الآن؟ هل تنتظر مني أن أذكّرك؟ لن أفعل، أبداً لن أفعل لأني أعرف أنك
ترى كل شيء الآن، تراه واضحاً.. ولا تحتاج لبضعة كلمات مني، فافعلها وأرح نفسك..
الشخصية : أذكرُ
كلّ شيء، لا أحتاجُ لك لكي تذكّرني، هل تتصور أن ثمة هنا رأساً.. لا أبداً، إن هنا
إسفنجة ذكريات، كل ما أفعله طوال حياتي هو أن أتذكر، كل ما كنتُ أفعله هو التذكر،
في لحظة قرّبوني إليهم، وفي اللحظة الأخرى نبذوني مثل جيفة، أجل أجل.. كانت سلامة،
لا تقل أنها كانت تشفق عليّ، ليس شفقة ذلك الغنج، ليست شفقة تلك الشهوة المتوهجة
في عينيها، لا أدري الآن إن كانت تريدني أم لا.. كانت تتلاعب بي كما كانت تتلاعب
بسالم أم لا، ولكن أنا كنتُ مختلفاً، ليس بالنسبة لهم فقط، حتى بالنسبة لها، لا
أستطيع أن أعرف.. عيناها
صوتها : عيناها.. أجل
الشخصية : تتقد
شهوة، لا يمكن أن يكون ذلك كذباً.. ولكن بالتأكيد ستكون خجلة من شهوتها تلك، تشتهي
شخصاً مثلي..
صوتها : أجل.. أجل.. والآن؟ لا تضيّع الوقت في
الثرثرة التي لا طائل منها
الشخصية : الآن..
عود ثقاب
صوتها : أجل عودُ ثقاب..
الشخصية : ويحترق
كل شيء، كأن لم يكن
صوتها : كأنه..
لم.. يكن
الشخصية : أنا
هنا.. بمحض الصدفة، آثارُ يديه على هذه العبوة، بمحض الصدفة، ولاعته التي يحملها
دائماً نُسيت هنا بمحض الصدفة، هذا الحريق الهائل، الاختناق، الموت، التشويه، كله
محض صدفة.
(إظلام)
النص
محتملاً
الشخصية : ماذا
تريد الآن؟
صوتها : لا
شيء
الشخصية : لماذا
تحدّقُ بي؟
صوتها : لا .. لشيء؟
الشخصية : ما
معنى هذا؟
صوتها : ليس له معنى
الشخصية : حدث
كل شيء بسرعة
صوتها : أجل،
وبمنتهى الدقة
(صمت)
الشخصية : كنت
تريد ذلك
صوتها : أجل.. لا أنكر
الشخصية : هل
أنت سعيد؟
صوتها : لا أدري
الشخصية : لستُ
نادماً، لستُ حزيناً عليهم.. حتى هي لستُ حزيناً عليها، لا يمكنني الآن أن أحزن
عليها، الآن لا أستطيع إلا أن أحتفل بهذه النهاية الجميلة، أتعلم ما المخيف في
الأمر كله؟ أنني لا أشعر بالشفقة عليها الآن، أنا متحرر تماماً، من كل المشاعر، من
الحب والشفقة والحزن وحتى السعادة والرضا.. كل شيء متساوٍ، هل يعني هذا شيئاً؟
صوتها : لا..
الشخصية : كنتُ
أعرفُ هذا، إنه لا يعني أي شيء.. فلماذا حدث كل هذا إذاً؟
صوتها : فقط لتتخلص من شعورك بالحقد عليهم، فقط
لتتخلص من إحساسك بأنك ممتهن.
الشخصية : أجل
صوتها : أجل..
الشخصية : مع
أنه لم يزل تماماً، لا أستطيع محو الذكريات، لا أستطيع محو الشعور المصاحب لها،
كلما تذكرت تعود تلك المشاعر، وأنا لا يمكنني.. إلا أن أتذكر.
صوتها : أجل.. هذه مشكلتك
الشخصية : مشكلتي..
أجل، عندما تجبر على أن تكون مهرجاً بالرغم منك، تسير على الحبل الممتد بين
ناصيتين لا تعرف لإيٍ منهما تنتمي، لا يمكنك إلا أن تتذكر.
في
وقتٍ مثل هذا عليك أن تزرع رأسك في إحدى الجهتين، نحنُ فقط الذين لا ندري ما الذي
كان يحدث بالضبط، من وقعنا في تلك المصيدة، نحنُ فقط الذين وقفنا في النصف بينما
كانت العربة تسير بأقصى سرعتها من دُهسنا دون مبالاة.
لا..
لم نكن قلة، كنا كثيرون.. كثيرون جداً لدرجة أن أحداً لم يلحظنا، كنا منتشرون هنا
وهناك وفي النصف، وبالرغم من هذا لم يكن أحدٌ يلحظنا، الذين في النصف وهم لا
يعرفون شيئاً أمثالي لابد أن العربة لن تترك من أجسادهم شيئاً.
كريم من جهة يهدد بإدخالي السجن إن أنا انصعت لما يريده سالم،
وسالم من جهة يمسك بيده مفاتيح جهنم.. ويلوّح بها أمامي.
صوتها :
وأنت؟
الشخصية : أنا؟
لا أدري، كنت أريد أن أرضيهما، لم يكن يعنيني أبداً ذلك الذي يجري في الشارع،
بالرغم من أنني لو كنتُ فكرتُ قليلاً، لكنت عرفت أن ما كان يحدث في الشارع كان
يحدث فيّ أنا، ولكني كنت أفكر فيها.. سلامة
صوتها :
أها..
الشخصية : لذلك
فقد كنتُ أجلس إلى كريم وقتاً طويلاً، كنتُ أعتقد أنه يحبني، أو راضٍ عني، كنت..
لا، ليس ذلك، كنتُ أريد أن أكون بقربها فقط، ولكنه لم يرد ذلك، لم يرد أن لا
يستفيد مني، كان يحرضني على أن أجيئه بكل أخبار سالم ورفاقه، من هم.. ماذا يفعلون،
أين يجتمعون، إلى ماذا يخططون، كل شيء، ولكي أكون قريباً أكثر، كان عليّ أن أجيئه
بهذه الأخبار، وكان عليّ أيضاً أن أقترب أكثر من سالم.
لم
يكن الاقتراب من سالم صعباً، كنتُ قد نشأت معه، وكان يعتقد أني شريك معهم في ذات
الهم، ولذلك فهو كان يريد أن يقربني، الآن أشعر بالخزي من كل ذلك.. كنت أكذب على
الجميع، وكانوا جميعاً يكذبون عليّ، سالم كان يريد مني أن أنفذ بضع عمليات هنا
وهناك، وكريم كان يريد أخباراً وصوراً لشخوص متورطين، وأنا أريدها هي، وهي لا تريد
سوى نفسها..
ربما
كانت تعجبها نظرة الرغبة التي كانت ترتسم على وجهي كلما كنتُ بقربها، فعلاً.. كان
الأمر مضحكاً، أنتَ لم ترَ وجهي حينها..
صوتها : أجل لم أره..
الشخصية : كان
غريباً جداً، لا يمكن لأمثالي أن يكونوا مثيرين، نحن خلقنا لكي يسخر منا الجميع،
لا يمكن أن أصفَ لك كيف كان وجهي.. مأخوذاً، ومرتبكاً، متعرقاً، و.. ببساطة يمكن
أن أقول عن نفسي بأني أبله وحسب..
صوتها : أبله.. لكنك لست كذلك..
الشخصية : لا
أدري.. لا أعتقد أني أعرف ما هو البله أساساً (يضحك) هل تعرف أنتَ ما هو البله؟
صوتها : بالتأكيد
الشخصية : ما
هو؟
صوتها : أن لا تعرف ماذا تريد
الشخصية : وهل
كنتُ أعرف ماذا أريد؟
صوتها : بالتأكيد.. ليس مهماً أن تحصل على ما تريد،
المهم أن تعرف ماذا تريد، وأنت كنت تعرف تماماً
أنكَ تريدها هي.. وبالرغم من أنك لم تحصل عليها، إلا أنك عرفت كيف تجعلها
ليست لأحدٍ سواك.. أيمكن أن تصف ما فعلته بالبله؟
الشخصية : لا..
لا يمكنني ذلك، إنه جريمة..
صوتها : ربما.. المجرمون ليسوا بلهاء
الشخصية : ليسوا
كذلك (صمت)
الشخصية : قد
يكونون كذلك.. الأمر مختلف، ليس كل المجرمين أذكياء
صوتها : لم أقل أنكَ ذكي.. قلت أنكَ لستَ أبلهاً..
وثمة فرق
الشخصية : (يضحك)
أنت تحرّف الأمور، أعرف أني أبله
صوتها : يرضيك أن تكون كذلك، ولكنك لستَ كذلك
الشخصية : ماذا تعني؟
صوتها : يعفيك ادعاء البله من محاسبة نفسك..
الشخصية : ماذا تعني؟
صوتها : لا تدعّي أكثر، أنا أعرفك تماماً، فلا تتظاهر
أمامي.. هل تعتقد أنك ستخدعني بكل كلامك هذا، لستَ أبلهاً، أنت فقط خبيث، تتحدث
عنهم جميعاً وكأنهم الشياطين، بينما ليس ثمة شيطان غيرك، لم يطلب منك أحد شيئاً،
أنت الذي أردت كل ما قدمته لهم، أنت جعلت من نفسك أضحوكة الجميع، ثم ها أنت تحاول
أن تبدو في شكل الضحية، لستَ ضحية..
الشخصية : أجل أنا مجرم
صوتها : بالتأكيد أنت كذلك، فلا تدّع أنك نادم الآن
الشخصية : لستُ نادماً
صوتها : إذاً لماذا كل هذا الأسى.. لماذا كل هذا
التبرير؟ أنت أحرقتهم، وهذا جيد، دون أن يكون ثمة مبررات، أحرقتهم لأنك تحب هذا،
لأنك تستمتع به، منظر النار وهي تلتهم بيتهم، تلتهم أجسادهم، لستَ محتاجاً إلى
مبررات، حاجتك الماسة لرؤيتهم يموتون كانت هي محركك..
الشخصية : ماذا تعني؟
صوتها : لا تكرر هذه الكلمة مرة أخرى، أنت تعرف
تماماً ماذا أعني..
الشخصية : من أنت؟
صوتها : أنت..
الشخصية : لا.. لا يمكن
صوتها : ما الذي ليس ممكناً، أني أعرفك بهذا القدر؟
أنك لا تستطيع أن تخدعني؟ ما الذي ليس ممكناً بالضبط؟ (كأن ثمة صراع يحدث داخل جسد
الممثل الذي يؤدي الدور.. صراخ غير مفهوم وهمهمة، ثم..)
الشخصية : لقد قلت منذ البداية.. هذا الممثل لا يستطيع
أن يؤدي دوري
الممثل : (وقد تحول صوت الشخصية إلى الممثل) أجل، لا
أحد يستطيع أن يؤدي دورك، لا أنا ولا سواي، أنا هو الممثل الذي لا يستطيع أن يتقن
دورك، ماذا ستفعل حيال ذلك؟ أنا الممثل الذي لا يثيره أن يؤدي دور الشخصية الماسخة
التي تدّعيها، أنت مجرد أحمق مثير للشفقة، بشخصية مسطحة ومريضة وتافهة ولن أؤدي
هذا الدور الذي تريدني أن أؤديه، ماذا ترى في نفسك؟ (يسحبه ويذهب به في إحدى زوايا
المسرح) أنظر جيداً، أنظر للمرآة جيداً، هذا هو أنت، ماذا ترى غير شخص مسكين،
يحاول أن يكون شيئاً فيما هو ليس بشيء إطلاقاً..
الشخصية : دعني
الممثل : لن أدعك
الشخصية : أتركني، أنا لا أراني.. أنا أراكَ أنت
الممثل : لا.. أنظر جيداً، هذا هو أنت، تحاول تبرير كل
شيء لتطمئن، لا فرصة للطمأنينة أبداً، أنت هو ما تفعل، كل المرايا ستقول لك ذلك..
تحاول الآن أن تلقي باللوم عليهم، هذا احتقرني، هذا أهانني، هذه نبذتني.. وأنت
ماذا فعلت..
الشخصية : أحرقتهم
الممثل : أجل.. أجل، أحرقتهم.. ولكن لماذا؟
الشخصية :
ليس لشيء
الممثل :
أجل ليس لشيء إطلاقاً، أنت أحرقتهم فقط لأنك شخص يأكله الغل والحسد والغيرة..
وتريدني أن أؤدي دورك.. وتقول أني لن أستطيع تأديته، ماهو هذا الدور العظيم الذي
لن أستطيع تأديته
الشخصية :
اتركني
الممثل :
تعال هنا.. (يجرّه في ركن آخر) أنت لا تستحق حتى الشفقة التي تتمسح لتنالها، ولو
كنتَ شخصية حقيقية لما تركتك إلا في مستشفى المجانين
الشخصية :
أنت المجنون، أنت الذي لا تستطيع أن تفهم شخصيتي، ولا تستطيع أن تؤدي دوري، ولهذا
لا يمكنك سوى اتهامي..
الممثل :
لن أخضع لتبريراتك
الشخصية :
مجنون.. اتركني، دعني
الممثل :
سأدعك.. سأتركك هنا، وحيداً ومهملاً..
الشخصية :
أجل اتركني.. اذهب لتأدية الشخصيات العادية والنمطية التي اعتدت على تمثيلها، أنتَ
لستَ قادراً على تأدية دور معقد مثلي..
الممثل :
لا تتحدث عني بهذه الطريقة (يلكمه)
الشخصية : لا
تضربني.. من أنت لتضربني
الممثل :
أنا لا أضربك، أنا أضربني إذ قبلت بتأدية دور تافه مثل دورك (عراك بالأيدي بين
الشخصيتين.. يتواصل ويستمر)
الشخصية :
افهمني
الممثل :
لا أفهمك
الشخصية :
حسناً.. اقترب هنا (يضربه)
الممثل :
الآن يبدو أن شخصيتك الحقيقية قد ظهرت.. (يصفعه)
الشخصية :
أنت حقير
الممثل :
أنت تافه
الشخصية : لو
فقط تفهمني
الممثل :
لا أفهم أمثالك..
الشخصية :
أنا بردان
الممثل :
سأغادرك
الشخصية : لا
تفعل.. أرجوك
الممثل :
(يصمت)
الشخصية :
أحتاجك
(صمت..
إظلام)
خاتمة
فائضة عن الحاجة
(الكرسي في المنتصف مرة أخرى.. والممثل جالس على الكرسي)
الممثل :
لا أستطيع أن أقدم أي اعتذار عن هذه المسرحية الفاشلة، أنتم حضرتم هنا، كلفتم
أنفسكم عناء الحضور لمشاهدة هذا العمل المسرحي، ثم فجأة ماذا تشاهدون؟ (يبدو عليه
الأسف) أنا أعتذر حقاً، لقد أصررت على أن
أنهي المسرحية بهذا الشكل، وأنا موقن أني أفعل الخير بالنسبة لكم، فمثل هذا العمل
لا يستحق المشاهدة إطلاقاً.. بالرغم من أنني كنت أودّ تمثيل مثل هذه الشخصيات
المعقدة والمجنونة، لكني فعلاً صدمت بتدّني المستوى الذي وصلت له هذه الشخصية، لا
شيء على الإطلاق كما تشاهدون، لا شيء فعلاً، كل أفعالها خارجة عن السيطرة، وغير
مبررة، كل أفعالها ليست سوى نتيجة أوهام، حقد على الآخرين دون مبرر، رغبة في كل ما
يمتلكه الآخرون، حقاً أنا مصدوم.. وأريد أن أعتذر لكم كثيراً.
لست
أعرف من أين جاءت مثل هذه الشخصية، مثل هذه الشخصيات ليس مقبولاً أن تظهر على
المسرح، ها أنا أقول لكم.. كان عليكم أن ترحلوا منذ رأيتم كيف أهانني في بداية
المسرحية، لم يحترم أني أجهدت نفسي لأداء دوره التافه، ماذا يريد من الممثل أكثر
من هذا؟ لقد تقمصت دوره تماماً، لكن.. كيف يمكن تقمّص دور لا مبررات مطلقاً
لأفعاله؟
أنتم
تعرفون.. أني، أقصد.. لا أريد أن أمتدح نفسي، لكني ممثل كفؤ، قمت بأدوار أشدّ
صعوبة من هذا الدور، ثم هاهو يحاول أن يشكك في قدراتي لمجرد أني كنت أحاججه في كل
ليلة من ليالي التدريبات.. كنت أرى أنه يجب على كل فعل أن يكون مؤسساً على قاعدة
قوية من المبررات، أما ما كان يقوم به..
ثم
أنه شخصية مريضة حقاً، يعتقد أن أحداً لا يستطيع أداء دوره، هه.. ماذا في حياته
أساساً، ما الذي في حياته مختلفاً عن حيواتنا جميعاً؟ هل يظن أن قليلاً من
الإهانات قادرة على أن تجعل منه شخصية مريضة كالذي صار إليها، سخروا منه، استغلوه،
حسناً.. ومن الذي لم يتعرض للسخرية، من منا لم يُستغل.. ثم يقول..
لا
أريد أن أطيل عليكم.. هذه المسرحية قد انتهت، وبإمكانكم الذهاب الآن.. يستحق فعلاً
أن نتركه هنا، مجرد أوراق لا قيمة لها، كلام من صمتٍ، لا يقال ولا يعرف.. مجنون
تصبحون
على خير..
(ينهار الممثل فجأة..
وكأنه أصبح قطعة قماش.. إظلام).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق