تقطيع النثر؛ حركة النصوص النثرية ذات الطبيعة الشعرية






(في مارس 2019م، قدّمتُ في ملتقى (رحلة المعنى) الذي أقامته منصة تكوين لدى احتفاليتها السنوية ورشة حول جماليات النصوص النثرية ذات الطبيعة الشعرية، تحت عنوان (تقطيع النثر). هذا المقال هو مجموعة من بعض الأفكار التي بُنيَتْ عليها الورشة، والتي أصوغها الآن على شكل مقال، لأتمكن من فهم شيء مما كنتُ أفكر فيه حين الإعداد لها).

ما الذي يجذبنا لنص ما؟

كما أي فن، كما أي سحر، فإننا نفقد اندهاشنا من القصيدة حين نعرف سرّها، وحين نكرّر اللعب معها نفقد شغفنا بها شيئاً فشيئاً. إن طاقة الشعر على الخلق لابد أن تكون متجددة، لذا فإن سرّه لابد أن يكون مجهولاً، وإن كنا نتفق على أن الشعر والمجاز هما أهمّ ما يطوّر اللغة، فإن هذه اللعبة التي تبدو طفولية وعبثية هي حيلة الطبيعة لجذبنا إلى تطوير لغتنا، ومن ثم أفكارنا ومشاعرنا. وها نحن كائنات بيولوجية تنخدع برغبة أو دون إرادة للغة التي تملكها. ولهذا فإن الشعر بالرغم من كونه فعل اختياري للكائن الفرد، يقوم به الإنسان بمحض إرادته، لكنه في الوقت عينه، فعل جبري بالنسبة للنوع، لابد له أن يمارسه، سواء أراد ذلك أم لم يرد، وكأن حياتنا ككائنات عاقلة مرتهنة بالشعر نفسه، كما أن حياتنا ككائنات بيولوجية مرتهنة بالتنفس أو بقية الحاجات الأساسية الفطرية الأخرى، ولكي نقوم (كنوع) بواجبنا الذي يبقينا على قيد الحياة (العاقلة)، فإن الطبيعة تمارس علينا سلطتها إما بفرض هذا الفعل الواجب، بطريق الحاجة، أو بإغرائنا للقيام به عن طريق الجذب.
هل يعني هذا أن الإنسان سيفقد كيانه حين يفقد الشعر؟ هل يعني هذا أن الطبيعة تدخلت وما تزال لتغرينا بالشعر؟ وأن الشعر هو مصير الإنسان وقدره، وليس هامشاً ترفيهياً على الحياة نفسها؟ أو إضافة اخترعها الإنسان ليقضي بها على الخوف أو مرض الحياة. أزعم أن الأمر بين هذا وذاك، ليس صحيحاً تماماً، ولا خطأ مطلقاً، كل ذلك يعود لما نعنيه بكلمة (الشعر).
وما أعنيه هنا منه ليس إلا الموسيقى، الموسيقى باعتبارها النظام الجامع للمشاعر الغامضة التي تعترينا وتجبرنا على التعبير عنها ومنها تنبثق المعاني، والأصوات التي عبّر من خلالها الإنسان القديم عن هذه المشاعر ومنها كانت المباني، فكانت أولاً آهات بشرية متقطعة، ثم شيئاً فشيئاً تحوّلت إلى ما يشبه العويل، ثم تطوّرت مع تنغيمها لتكون أشبه بالغناء، ثم مع ازدياد هذه المقاطع الصوتية المغناة ترافق الشعر مع اللغة ينحت أحدهما الآخر، في شكلهما الصوتي، فكان الشعر، غناء صيادين أو رعاة، في كهوف قديمة أو وديان سحيقة، وكانت اللغة بناءً تراكمياً لهذه الأصوات التي (نملّها) والتي نشعر أنها لا تستطيع التعبير عما يعترينا، فتُلجئنا الطبيعة إلى ابتكار المزيد والمزيد منها، وحفظ السابق منها بوسائل متعددة، من الشفاهية الأولى، حتى الترميز في أشكال وحروف، حتى حفظها على أقراص أو اسطوانات، لم يكن الشعر إلا موسيقى، قبل اختراع المفردات، قبل اختراع اللغة نفسها وتطويرها عبر هذه العملية نفسها، كان الشعر موسيقى الصوت البشري، وقد بقي لفترة طويلة معتمداً على الموسيقى، ولا يمكنه التخلص من الموسيقى التي هي ليست بنيته الصوتية فحسب إنما بنيته الشعورية كذلك، الأصوات التي بدأت بالآه (مبنى) أولاً للتعبير عن الألم (معنى) مثلاً، ثم تطورّت إلى ألفاظ، وكلمات، وتعقّدت هذه المفردات كثيراً لتفهم ماهيته، لكن في سياق آخر اشتغلت بعض الفنون على تبسيط هذا الفهم المعقد على شكل أصوات كذلك. وبذلك فإنني أعني أن أجل، سيفقد الإنسان كيانه حين يفقد الشعر/ الموسيقى، ولن تتركه الطبيعة يفقدهما، ليس وهو (كنوع) بهذا القدر من الحساسية، ومن الغربة، ومن الرغبة الغريبة والجامحة في التعبير عن الغامض القصي في نفسه بالموسيقى، وبالشعر.
إذن؛ ما الذي يجذبنا إلى نص ما؟ أليس قدرته على التعبير بموسيقاه عن موسيقانا الداخلية، أليس ذلك السحر الغامض، والدهشة التي نبحث عنها في الصوت الخفيّ في أرواحنا؟ أليس هو التعبير اللامتناهي بأصوات لا محدودة -تجعلها هذه الكثرة مجهولة- عن تعقيدات مشاعرنا وأفكارنا؟ وهكذا تغرينا الطبيعة، مرة بعد أخرى، ودون نهاية بفكرة التعبير بالشعر/ الموسيقى، فكرة إيجاد صوت مناسب يفسّر ولو للحظات، غموض مشاعرنا وأفكارنا. إنها بذلك تجبرنا على التفكير، إنها بهذه الحساسية التي منحتنا كنوعٍ يشعر بغربة ورغبة في التعبير عنها، تجبرنا على استخدام هبتها الأجمل لنا، عقولنا، وكأن الكائن البشري لا يمكن أن يستخدم عقله بطاقته المناسبة إلا مع شعوره بهذه الموسيقى التي فيه، وبشعوره بهذه الغربة والتوهان وتوقه إلى التعبير عنهما.
إنني أقترح (بشعرية هنا) أن الإنسان استخدم عقله لا من أجل إيجاد الطعام، ولا من أجل الجنس، ولا من أجل بقية الحاجات الأخرى التي يشترك فيها مع الحيوان، إنما استخدمه ليجرّب مرة أخرى إصدار صوت مقارب لتلك الموسيقى التي تصدح داخله ولا يجد لها تفسيراً، وسيظل يستخدمه ليفهم ذلك الصوت، ولن يفهمه، لأنه حيلة الطبيعة لربطه باللغة، ولأن اللغة هي الوسيلة التي تجعل عقله قادراً على شرح أفكاره ومشاعره، أو محاولة ذلك على الأقل، ومن كل ذلك تنسلّ المعاني والأفكار والمشاعر، كما تنسلّ الأصوات والمجازات والموسيقى. 
هذا ما فعلته الطبيعة ببساطة، أعطتنا عقلاً، ولكي تجبرنا على استخدامه، أعطتنا المشاعر وتعقيداتها والأفكار وتشعباتها، ولكي تطمئن إلى تجدد استخدامه كان لابد لها من منحنا الشعور بالغربة، وحساسية ورغبة التعبير عنها، باللغة/ الصوت/ الموسيقى، وهكذا من أجل أن نجد الصوت الأنسب فإننا لابد أن نشعر بقصور اللغة، وهكذا في حركة لا منتهية، تقصر اللغة عن شرح ما نريد التعبير عنه، فنلجأ إلى الصوت والموسيقى، التي تقدّم بدورها تأويلات لهذه الفكرة أو ذلك الشعور، تقترب من ملامسته حيناً، وتبتعد أحيان، وهكذا علينا ككائنات بشرية أن نطور اللغة والموسيقى مجبرين، وأن نكتبهما مجبرين. 
نستطيع تقسيم الأمر إلى دائرتين، في الدائرة الأولى هنالك التحدث إلى الذات، وفي الثانية هنالك التحدث إلى الآخرين، في الأولى يكمن الشعر والغناء والموسيقى، وفي الثانية يكمن الخطاب والحوار، ولن يكون الإنسان قادراً، أو مهتماً بالدائرة الثانية، التي منها ستتكون اللغة كمنظومة رموز، ما لم يبدأ بالدائرة الأولى التي منها ستتكون اللغة كمنظومة أصوات، وكلا الدائرتين يحركهما مجموعة من المشاعر والأفكار الغامضة والواضحة، ورغبة في الغناء أوجدتها الطبيعة فينا، مثلما أوجدتها في أي طائر مغرّد، لكن بفارق أنها –أي الطبيعة- أوجدت فينا كذلك رغبة البحث عن السرّ في السحر أي الشعر أو الفن، عبر منحنا قدراً عالياً من الحساسية والغربة والرغبة في التعبير عبر موسيقى موجودة داخلنا، لكننا لا نعرف ما هي، ولن نعرف.

هل تؤثر الموسيقى في معنى النص؟

لسنا معزولين عن اللغة، فاللغة التي نفكر بها، تؤثر كثيراً في طريقة تفكيرنا، وترتيبنا للأمور، في نظرتنا للأشياء، عدد حروف هذه اللغة يؤثر في طريقة اختبار مشاعرنا، حركات اللغة في العربية، المقاطع الصوتية التي تتشكل منها المفردات، الحروف الشمسية والقمرية، كل ظاهرة من ظواهر لغة ما، تؤثر في متحدثيها، وتؤثر في طريقة تفكيرهم، إننا لا نختار المفردات والتراكيب والجمل التي نعبّر من خلالها عن مشاعرنا وأفكارنا تماماً، بل في أحيان كثيرة وخصوصاً في النصوص ذات الطبيعة الشعرية، فإن هذه المفردات والتراكيب تختار بعضها بعضاً، فمن الممكن أن ينحرف النص عن بدايته ليذهب في اتجاهات أخرى من خلال مفردة تشي له بمفردة سواها، أو تركيب يشي للكاتب بتركيب قريب، أو صورة بصورة، وهكذا. في كثير من الكتابات قد يكون الكاتب متحكماً (بدرجة أو بأخرى) بما يكتب، لكن في الغالب قد لا يستطيع أن يفعل ذلك طويلاً، دائماً سيكون ثمة صراع بين الكاتب ولغته، هو ليس صراعاً حقيقياً إنما هو حالة من الرقص بينهما، هو يذهب بها في منطقة، وهي تذهب به في منطقة أخرى، وذلك هو ما يوسع اللغة، وذلك ما يوسّع المعاني والأفكار. وهكذا تخلق التراكيب الثابتة والمجازات المستخدمة معاني جديدة، وهكذا يستدعي نظام لغوي ما أفكاراً بعينها، وهكذا فإننا نفكر باللغة، ولو اختبرنا الأمر في شكل ما يسمى بالتداعي الحرّ، فإننا سنجد أننا نفعل ذلك بطريقة تلقائية، وكلما جرّبنا الأمر مرة بعد أخرى، واستطعنا فعل الأمر بتلقائية أكثر، فإننا سنعرف أن التداعي الحر ليس فوضى، إنما هو انسلال معان من معان، وترك الذاكرة والخبرات الذاتية تعمل بالتعاون مع اللغة، على التفكير في أمر أو أمور متعددة، ومن هنا يمكن تشبيهها بعبور الغابة المظلمة أو المتاهة، لكن بحسّ العارف والخبير، أو على الأقل بحسّ الحذر المتنبه.
فكرة التداعي الحرّ، واستعمال اللغة كموجّه عشوائي لأفكار عشوائية (فيما يتعلق بالنصوص ذات الطبيعة الشعرية) يخلق نصوصاً جديدة، أو أفكاراً مختلفة في النص. وهنا كذلك لا نعني بالعشوائية الفوضى، بل ذلك الحذر المتيقظ الذي يحرّكنا لدى التحرّك في الظلمة أو المتاهة.
إن اللغة تعتمد على ذاكرتها لدى شعورها بالظلمة والمتاهة، كما يعتمد أحدنا على ذاكرته لدى ذلك. هي تفعّل خياراتها الأخرى، مثل الحذر، والحدس، والتوقع والتحسس والتوجّس وغيرها، كما نفعل نحن ذلك عادة، لذا فإنها (وبالاعتماد على الذاكرة اللغوية لكل فرد) تلجأ إلى مخزونها الكلّي، لتسدّ من خلاله الفجوات، أو تضيء المناطق المظلمة، أو تهتدي إلى علامات تسترشد بها نحو الطريق. وهذا ما يستدعي منا أن نزيد من مخزون هذه الذاكرة اللغوية لدينا، من أجل أن نعطي لغتنا القدرة على إرشاد نفسها، حين يتعسّر الأمر علينا في التعبير عن ذلك المجهول الذي نودّ أن نقوله.

إذن، ما هي الموسيقى في الكتابة الشعرية؟

قد يبدو مألوفاً القول إن الموسيقى الداخلية، هي تأثير تناسق الحروف والجمل والتراكيب والصور والمعاني والمشاعر على النص، لكن غالباً يبقى هذا القول غامضاً، إذ كيف تفعل ذلك؟ كيف تتحد هذه الأدوات لتفعل ذلك؟ بل كيف نستطيع أن نقيس تأثير كل ذلك في مقطع نثري أو شعري واحد؟
تؤثر الموسيقى الداخلية تأثيراً مباشراً في علاقة المتلقي بالنص، بل إن الدافع وراء النص غالباً ما يكون مزيجاً بين هذين، أي بين تكوين موسيقى داخلية للتأثير في النفس الكاتبة أولاً، وفي المتلقي بالتالي. واستعداد المتلقي لهذه الموسيقى عبر ثقافته وحساسيته السابقة.
الموسيقى الداخلية للنصوص تشغيل للحواس جميعها، السمع في موسيقى الحروف والمفردات، الرؤية في تخيل الأشكال لدى التصوير، اللمس في تحسس الأشكال، التذوق، الشم.. التأمل، والتذكّر، ومن دون الاعتماد على الذاكرة البشرية عموماً، والعِرقية اللغوية في الاعتبار الثقافي خصوصاً، لا يمكن أن تتناغم الموسيقى الداخلية في النص، فما من موسيقى داخلية في الكتابة إلا وشكلها الأساسي متشكل مسبقاً في نفس القارئ، وبحسب القارئ تتشكل موسيقى النص الداخلية.
كما أن الموسيقى الداخلية لا تعتمد على مشاعرنا نحن فحسب، بل على مشاعر أجدادنا الذين نحتوا مفردات لغتنا؛ أولاً بحسب مشاعرهم تجاه الأشياء، وأيضاً بحسب مشاعرهم تجاه الحروف التي منها صيغت هذه المفردات، فهم يقرّبون الأشكال والأشياء والأفعال التي يرونها أو يفكرون فيها أو يقومون بها إلى أصوات هذه الحروف أو أصوات تشبهها، أو أصوات قريبة منها أو مأخوذة عنها، فلنتخيّل إذن أن الحروف لم تكن إلا (موسيقى تصويرية) بلغة اليوم لأحداث معينة جرت لأجدادنا، موسيقى كانت ترمّز الأحداث والأشياء إلى أصوات تعبّر عن مشاعرهم تجاهها، إنني أفترض هنا إذن أنهم لم يكونوا يريدون تسمية الأشياء، بل كانوا يعبّرون عن مشاعرهم تجاهها بهذه الأصوات، وما الأسماء وما اللغة إلا حدثاً عرضياً حدث بعد ذلك نتيجة الصدفة وممارستها لا أكثر، بعد ذلك صاغوا لنا أساليب التركيب لخلق كلمات، ثم جمل، ثم أساليب التصور والتخييل، وفي كل ذلك لابد أن نعرف أن الصوت كان حاضراً، وموجوداً بل إنه دليلهم إلى إيجاد الرمز أو المعادل، وهذا يدعونا إلى معرفة أننا نتحدث اليوم عبر مشاعر أولئك الأجداد، ولنا أن نتخيّل كذلك، الألم الذي شعر به أحد هؤلاء الأجداد، ليجد معادلاً صوتياً لشيء مثل (النخلة) التي ننطقها اليوم بسهولة الناسي غير المكترث، ما الذي دعا هذا الجد ليسم هذه الشجرة بهذا الاسم، وكيف أوجد هو أو أجداده هذا المعادل الصوتي لها؟ من أي عمقٍ في مشاعرهم تجاه هذه الشجرة التي تقف في الصحراء وتعطي الثمر لإنسان ربما يكون ضائعاً وجائعاً خرج الرمز الصوتي (نخلة) أو تخلّق، ليكون امتناناً مثلاً؟ وكيف تتشابك الكلمات بعضها ببعض والحروف بعضها ببعض في نسق معقد من المشاعر واستدعائها والأصوات ودلالاتها؟ 
وإلى هنا لابد من التأكيد على أهمية قراءة كتب التراث، من أجل أن نتشبع بروح التركيب في جمل لغتنا ومن أجل أن لا تغترب لغتنا عن نفسها في الكتابة، فكلما قرأنا كتاباً مترجماً، علينا في المقابل أن نقرأ كتاباً في التراث، لأننا إذ نكتب بلغتنا فإننا نبحث في قاع لا ندركه من أنفسنا عن موسيقى تصويرية تناسب حالاتنا النفسية التي نكتب بها، فالموسيقى أو أدواتها البلاغية ليست إذن درساً في الكتابة، أو آلياتها، بل نظرية للفهم، وطريقة للاشتغال بالفكر، ووسيلة من وسائل التفكير نفسها، وسبيل من سبل البحث عن المعرفة والمعنى. إنها ثقافة ممتدة لآلاف السنوات، حين لم يكن أجدادك إلا مئات أو آلاف يكتشفون الحياة لأول مرة، وينطقون الحروف بدهشة أكبر من اعتيادنا لها في الوقت الراهن، وكانت تعني بالنسبة لهم أكثر وأهم وأشدّ مما تعني لنا الآن، حين كانت هذه الحروف إذ تتآلف مع بعضها لا تمثّل تسميات ومفردات نكدّسها نحن في القواميس، بل هي مشاعر ربما تصل إلى حد أن تكون قصائد، أو مقطوعات موسيقية لشدّة ما كانت تعبّر عن اقتراح شعوري لشيء أو حدث. وها أنت الآن مسؤول عن الحفاظ على رنين ذلك الصوت أو هذه النبرة، أنت ككاتب، وأنا كقارئ، مشتركين في أجداد لغويين، أورثونا حروفهم، وأورثونا إحساس هذه الحروف.
وبالحديث عن فكرة المعادل الصوتي وتوارث الشعور الصوتي في المفردة، لابد من الحديث عن فكرة التجريد في التجربة، إذ ما الذي يجعلنا نشعر بإحساس ما تجاه حوادث لم نعشها، أو قضايا لم نلتصق بها؟ هل فعلاً نستطيع من خلال القراءة عنها فقط أن نكوّن مشاعر تجاهها؟ هل يمكن للقراءة حقاً أن تشرح أمراً أو فكرة، دون مفاهيم مثل التجريد والترميز، اللذين يعتمدان أساساً على وجود معادل لدى المتلقي، من دونه تفقد الشفرة مضمونها وغايتها، لا يمكن أن يحدث ذلك بالطبع، لكن ما هي المعادلات الموجودة في النفس البشرية، والتي تضمن (إلى حدّ ما) قدرتها على تحليل التجارب واستخلاص مشاعرها وغاياتها منها؟ إننا حين نقرأ عن حدث، أو نسمع قصة، فإننا نستدعي مشاعرنا وأفكارنا الأولى، نعرف الألم، لذا فإن أي ألم، أياً كان مسببه سيستدعي لدينا ألمنا الخاص، وهو معادلنا الذي نفهم من خلاله الألم في القصة، أو الحدث، نعرف الرغبة، وحين يتطلب الأمر نستدعي شعورنا تجاه الرغبة لنعادل به شعور الشخوص في الحدث أو القصة، وهكذا، لابد لنا من معادل داخلنا نربط بينه وبين ما هو موجود في الحكاية أو القصة أو الحدث، وغير ذلك ومن دون وجود المعادل، فإن الأمر سيربكنا، ولن نستطيع فهمه، هذا يحدث في بعض الأمراض النفسية، إذ ينعدم وجود معادل داخل نفس الشخص المريض، فلا يعود يفهم أو يربط بين ما يقال في الحدث، وبين الشيء في داخله، كما أننا كلنا بالتأكيد ينعدم لدينا وجود معادل حقيقي عن الموت، لذا يصبح الموت فكرة غير مفهومة تماماً عندنا، مهما حاولنا إيجاد معادلات خارجية لها، يبقى الغموض هو ما يكتنفها، وكذلك يبقى الموت حاضراً بهذه القوة في حياة الكتّاب والفنانين باعتبارهم أكثر البشر ميلاً للبحث عن المعادلات في أنفسهم، إنه حاضرٌ هكذا ليس لأننا نخشى منه، إنما لأننا لا نجد له معادلاً في أرواحنا، لم نختبره، ولم نختبر شيئاً يشبهه يمكن لعقلنا أن يجعله معادلاً له.
وبالربط بين موضوعي تجريد التجربة، والصوت والدلالة، ندرك قيمة الموسيقى في الصوت، في قدرته على اختزال مشاعرنا ليس فقط فيما يخص تجاربنا الذاتية، لكن وعبر مفهوم الاختزال هذا فيما يخص التجربة الثقافية للغة ما، وعلى أساسنا هذا يمكننا أن ندرك أهمية استرجاع النطق والإلقاء كحالة مرافقة لأي نشاط لغوي (أدبي خصوصاً)، فهو عودة إلى الشعور الأول للحرف والكلمة والجملة، ليس باعتبارهم مجرّد رموز لما هو موجود في الواقع، بل باعتبارهم وهذا بالنسبة لي أهم من الواقع نفسه، تعبيراً عن تأثير الواقع على النفس البشرية، فالحرف المكتوب يمكن القول عنه أنه رمز، لكن الحرف المنطوق، والمقطع الصوتي المنطوق لا يمكننا إلا أن ندعوه فناً، فناً باعتباره الصرخة الخاصة التي أطلقها الأجداد للتعبير عن مشاعرهم، وما الفن غير ذلك؟


تقرير حول الورشة

ليست هناك تعليقات: