لا أظن أن فكرة العائلة الأدبية الحقيقية لكاتب ما تبدأ مما قرأه هو، أو تأثر به كما يزعم، بل مما كانت أمه تقرأه أو تنشده عليه حين كان على صدرها، أو أبكر قليلاً حين كان في رحمها، أو ذلك الأبعد حين كان يضع رأسه على رجلها وينام، وهي تقصّ عليه حكاياتها أو تبث في رأسه وقلبه ما تحفظ من أشعار، إنها عائلة لا نختارها ولا نحددها، والغالب أننا لا نتذكرها، إنما هي قدرية تمامًا، فكما أننا لا نختار آباءنا وأمهاتنا، فنحن كذلك لا نختار ذلك الصوت الأمومي الذي يتلو علينا مختاراته ومحفوظاته والذي يكوّن بعد ذلك مشاعرنا الأولى تجاه الأسئلة الفلسفية الأولى التي تولد معنا ككائنات عاقلة، والتي تحدد إجاباتها بعد ذلك ما سنكون عليه ككتاب.
إن كنت قد بدأت من مقدمة صحيحة، فالغالب أن هذا الشجن والحزن والسوريالية الكئيبة، ومجاهيل الغابات والأحراش والطمي وأنّات الخفافيش والغربان وزعيق الجن والضفادع وتكسّر الورق وخشخشة الموتى كلها كلها، كانت موجودة في صوت أمي، ونقلتها إليّ حين كانت تهدهدني.
وإن كنت أعرف أمي جيدًا فالغالب كذلك أن كل هذا انتقل إليها مما يسمّى في التراث الشيعي بليلة الوحشة، ليلة الحادي عشر من محرّم، الليلة الأثيرة لديها للبكاء، الليلة المخصّصة للفزع والخوف والحزن والكآبة والقلق والظلام الظلام الظلام، وصراخ الأطفال، والدم، والأعين المفتوحة في رؤوس الأهل المعلقة على الرماح، والضياع والغبار والسديم والعطش وبطون الحيّات.
لا أدعي أنني أتذكر كل ذلك من مصدر وحيد، لكني وأنا أكتب الآن أسمع نشيجها هي، ندبها وتعديدها هي، وهذا لابد يعني شيئًا. إنك تستطيع بيسر أن تعرف من أين استقيت لغتك ومن أين تستقي موضوعاتك، لكن الكتابة ليست لغة وحسب ولا موضوعات فقط، إنها قبل ذلك مشاعر مجهولة تحاول اكتشافها أو السيطرة عليها أو إفزاعها، إنها أسئلة لا تعرف عمّ تبحث ولا ماذا تريد منك، شيء أعمق وأبعد وأشد غورًا من صورك وأخيلتك ولغتك وأسلوبك، وأكثر انطماسًا من مصادر نصوصك وإلهامك، ذلك الصوت البعيد الذي لا تدركه في نفسك، ذلك الذي حدّد سلفًا المعدن الذي ستكون عليه روحك، ومهما تغيّرت المصائر بعد ذلك، في الأسفل، في القاع، ستكونه هو لا سواه، وسيكون من المدهش لو سمعت صوت أمك الآن، وعرفت أي القصص كانت تقرأ عليك، وبأي صوت، وكيف كانت تتحسس بطنها وهي تحكي، فيصلك الصوت الغامض ليملأك بما لا تقدر تجاهه إلا الانصياع، فيما أنت مربوط في رحمها بحبل غليظ من الحكايات.
بعد ذلك ستبدأ في اختيار ما يتوافق مع ذلك الصوت، ما يعضده ويدعم صورته، ما يندغم فيه دون نشاز، كل ما ستختار من كتب وكتّاب، سيكون انعكاسا من جانب ما لأثر ذلك الصوت فيك.
القرآن
لا أتذكرني في حلقة من حلقات تعليم القرآن للمعلمة «خاتون»، ما يحضرني من الذاكرة الآن الصوت الجماعي والعشوائي والفوضوي للأطفال فقط وهم غارقون في تلاوة أجزائهم من القرآن كل بحسب سنه ومرحلته التي وصل إليها، لكنني مع ذلك، أذكر أني قرأت القرآن باكرًا، وهو ما أجرى لساني ورقق لغتي للمسرح تاليًا، منذ كنت في العاشرة أو أقل، كنت أقرأ جزأين من ليليًا في شهر رمضان، إضافة لقراءات المسجد ليليًا، والتعليم الجماعي فيها الذي انتشر بداية الثمانينيات في البحرين.
القراءة الجهرية أعطتني قدرة الإحساس بمذاق الكلمات، بنكهتها، بتلمس شكلها وهيئتها ووضعها وحالها، وهو الأمر الذي نفتقده الآن في القراءة الخافتة التي نقرأ بها في الغالب.
القراءة الخافتة تمنحك الصورة الذهنية للكلمة، المرافق الدلالي لها، لكن الكلمات عبارة عن أصوات، بل إن كل تلك الدلالات لها لم تكن لتتشكل من غير ذلك الصوت، إنه مصدرها الأول، قبل أن تجد رمزًا كالحرف المكتوب تسكن إليه، لكن في القراءة الجهرية، أن تدمج بين هذه الصورة الذهنية لدلالة الكلمة وبين صوتها، صوتها الذي هو شعورها الحقيقي الساكن في اللغة، أن تقول الكلمات، أن تشعر بها على لسانك، أن ينبعث من بين شقوق حروفها إحساسها الأساسي الذي كوّنها، وكذلك، أن تراعي أن يفهمها الآخرون، أن تحبس نَفَسَك لتستطيع إطلاق الجملة التي تريد دفعة واحدة.
لقد منحني القرآن وقراءته ذلك الشعور بالعلاقة المهمة والقوية والضرورية بين صوتي، وحروف الكلمة وإحساسي بها، ومع لغة عظيمة ومسيطرة وربانية وغيبية مثل لغة القرآن قد تكون اكتملت اللمسة الأخيرة على معدن الروح، أو تحقق الصوت الخارجي الذي يملأ ذلك الليل المظلم والقاسي والمرعب في السنوات الأولى بالكلمة المفقودة، التي لا أعرف ما هي، التي لن أعرف ما هي، والتي ستظل تتردد بصوت لا يشبه صوتي، ولا صوت الله، لكنه بينهما، وأظن أنه صوت أمي.
العائلة
بعد أن تبلغ المراهقة، وتكون القراءة قد استولت عليك، سيكون بإمكانك أن تختار، عبدالوهاب البياتي الذي يطلب الموت ولا يأتيه أو السياب الذي يموت باكراً دون اختيار، المتنبي الذي يريد من الحياة ما لا تعطيه أو المعرّي لا يريد للحياة كلها أن تتواصل ويشعر بالحاجة إلى نهايتها، محمود درويش وموسيقاه اللغوية أو أدونيس بتشظيه وأفكاره الوحشية، ستقرأ لكثيرين، سيعجبك من كل شاعر أمر ما، شيء ما، وسترفض آخرين لأشياء أخرى، ستقرأ في الفلسفة والدين والأخلاق وستحتقر الرغبة في إصلاح المعطوب من هذا العالم ومع هذا ستسعى بدافع مجهول إلى فعل شيء من هذا الإصلاح، وستقرأ أشياء من التاريخ تجعلك تتراجع نحو الحيطان الوهمية للخيال، وأشياء من السياسة تدفعك دفعًا إلى إغلاق فمك الذي ستخرج الكلمات منه رغمًا عنك مهرولة نحو الحفر التي ستجد نفسك أنت تقع فيها، قصصًا وحكايات وروايات وأشعارًا مترجمة، لكنك لن تختار إلا من خلال الصوتين الأولين، ستختار ما تراه الأشدّ حزنًا، ما تراه الأكثر تشاؤمًا.
وإن كنت ستختار في الحياة خيارات تختلف تمامًا عن ذلك الصوت، وستريد فيها أن تكون متفائلاً، وستجتهد لتكون كذلك في معايشتها، لكنك في القراءة وفي الكتابة، لن تكون سوى ابن ذلك الصوت الحزين الذي يتردد فيك وفي ظلامك، وستتساءل إن كان هذا أمر قدري؟ أهو أمرٌ قدري؟ أليس بإمكاني تغييره؟ أجبني أيها الظلام.. وحتى هذا لن تكون قادرًا على الإجابة عليه.
خليل حاوي، وانتحاره المروّع على شرفته غداة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، سيكون دليلك إلى الموت الذي تجهل من أين يأتي، خليل حاوي ولعازره الذي يعود من موته موجوعاً متألمًا، ميتًا من حيث لا حياة في الحياة نفسها، ومن حيث الموت لا سبيل إليه الآن، إن كنا نبحث عن الراحة، أوليست الراحة في انخماد وجع (هذا الدم المحرور في اللحم القديد)؟ ومن ألم حياة خليل حاوي وانتحاره، ستذهب إلى (الذي يأتي ولا يأتي) عند عبدالوهاب البياتي، الموت المرتجى والمطلوب، الموت الذي لا يصل، الموت الذي تنتظره على محطة الحياة كما انتظر صمويل بيكيت غودوه. اختياراتي كلها، ها هي تتراءى لي واضحة بقدر ما هي سوداء وغامضة ومربكة ومرتبكة، تنهل من منبع شبيه بليلة الحادي عشر من المحرّم في مناحات أمي، أحلام شقية لسعد الله ونوس، حيث الموت الذي يخطف الطفل ويبقي على العسكري، حيث الأم الحزينة لا تجد أملاً في حياة مختلفة حتى لو أرادت وخططت، وكأن القدر يقف حاجزاً في وجهها ليبقى بسطار العسكري مثبتًا على وجنتها، أليس هذا حالنا في ثوراتنا الموءودة؟ الخراتيت ليوجين يونسكو، حيث الموت المحتّم والانمساخ، حيث جميعنا نتحول من غير أن نشعر، راكضين في اتجاهات مجهولة دون هدف.
عائلتي التي ربّتني وربّيتها في صدري، عائلتي التي قرأتها واخترتها وأخذتها وأخذتني، عائلة لا من الكتّاب أو الشعراء أو المسرحيين بل من النصوص والكتابات والقصائد والمسرحيات، عائلة من العميان تتدافع في رأس وحيد يحترق، لا يهدف أحد منها الخروج من الرأس، أو النجاة بنفسه، إنما كل ما تبتغي أن تركض وتركض، عائلتي التي تشبه الأطفال، ليلة حرق الخيام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق