جدوى الشعر في زمن الفجائع..





جدوى الشعر في زمن الفجائع..
مهدي سلمان (البحرين): الشعر سبيل للاحتجاج على الموت


قديماً، حين كان الموت موزعاً بين الحروب والأمراض والجهل والجوع وأسباب أخرى، رأى الإنسان الشعر، من بعيد، في أعماقه، سبيلاً للاحتجاج على الموت، لفهمه أو ترميزه، فخلق من الشعر الديانات والآلهة، ومنها خلق الفلسفة والحكمة، كانت تلك الطريقة الأولى التي اختارها الإنسان لمواجهة (فجائعية الموت) ومنها استطاع أنْ يهدئ من قلقه وتوتره إزاء المجهول الذي يمثله الموت من ناحية، وإزاء طبائع الإنسان الوحشية ورغبته في ترويضها من جهة. تكونت الأساطير من الشعر الكامن في المناجاة/ الصلوات/ الإنشاد/ الغناء، وهي في نظري شكل الشعر الأولي، لمواجهة ما في الحياة من قسوة، ليس مواجهة الراغب في صرع خصمه، إنّما مواجهة الماشي إلى خصمه بصدر مفتوح، وقناعة بالهزيمة، بل اطمئنان إليها. بعد ذلك انحرف الشعر في أزمان كثيرة، نتيجة لاستخدامه وسيلة من أجل غايات محددة، سواء على مستويات الفرد الشاعر، أو الأمة التي تحتضنه، وأيضاً بسبب افتراق الشعر عن روحه الأولى كصلاة، فصار للديانات صلواتها وأناشيدها، وللفلسفة طرقها وأساليبها، وللغناء تياراته ورؤاه، وبقي الشعر، الذي هو أصل كلّ هذا، حائراً مرات، ومستخدماً مرات، وفي فترات قليلة كان يجد نفسه في البحث عن أسئلته الأزلية، إنْ لم يجد من يشوش عليه طريقته الأولى في كونه احتجاجاً على الموت بالذات، أو في كونه محاولة يائسة لفهمه. لكننا اليوم، في عالمنا العربيّ -الذي فيه نشأ الشعر للمرة الأولى كما قد أزعم- نجد أنفسنا مرة أخرى أمام الوظيفة الأصيلة للشعر، أي الصلاة، أمام فجائعية الموت، وعبثيته في هذا الفضاء الجيوثقافي، لا بد أنْ يتجه إنسان هذه المنطقة مرة أخرى نحو الشعر ونحو الصلاة، والإنشاد، الصلاة لا لإله بعينه، إنّما الصلاة باعتبارها مناجاة شديدة العاطفية، شديدة التأمل، شديدة الصدق، وشديدة الذاتيّة، والتي من انصهارها سيتكون ما هو جديد فعلاً في الفلسفة والدين، والتي من انصهارها سيتكون البحث الأبعد فيما يخص طبائعنا كبشر، والتي من انصهارها سيخرج شعر جديد أيضاً.
"تأتي ضرورة الشعر اليوم، من كونه الأمل الحقيقي في صنع فلسفة جديدة، وإنشاد جديد، وبالتالي إنسان جديد"
ولذا فإنّه من الضرورة اليوم لا أنْ نبحث عن الشعر في الذي يقول عن نفسه إنّه كذلك، إنّما أنْ نحدق ونستشعر وجوده في مواقع أخرى، سيأتي الشعر على غير هيئته، وقد يلتبس علينا الأمر أولاً، لكننا سنعرفه، وسنقول إنّه هو، لذا فمن الضروري كذلك أنْ يبحث الشعراء الحقيقيون عن تلك الصورة منه، من هنا تأتي ضرورة الشعر اليوم، من كونه الأمل الحقيقي في صنع فلسفة جديدة، ودين جديد، وإنشاد جديد، وبالتالي إنسان جديد. يتبقى فقط أنْ أنبه إلى ضرورة التركيز، فعالمنا اليوم ليس فجائعياً فقط، إنّما هو زمن الشتات والتشتيت، الأصوات المنبعثة من كلّ مكان عبر وسائل التواصل الحديثة، لا يمكن للصلاة أنْ تتم معها، تحتاج الصلاة للهدوء والتركيز، كما تحتاج الفلسفة والتأمل، وكما يحتاج الشعر، وأظن أنّ ما يعيقنا عن غايتنا هو فوضى الأصوات اليوم، هذا دمٌ يحتاج للتأمل، هذا موتٌ يحتاج للتركيز، هذه فجيعةٌ تتطلب الصمت.



ليست هناك تعليقات: