أغمض عيني
أغمض عيني وأتخيل.. أتذكر، أفكر وأحلم، أغمض عيني لتتسع الصورة، وتأخذ غير منطقها، أغمض عيني ليتحرك الضوء مثل سحابة في لقطة مسرّعة، مشوّشاً، غامضاً، وامضاً، ومنزلقاً. أغمض عيني لا لأقول منذ متى، وأين، كيف ولماذا، أغمضها لأثقب من خلال ذلك بالونات الألوان السحرية التي لا ترتفع إلا في الظلام.
أغمض عيني لأكتب.
أغمض عيني ليسيل حبر المعنى على ورقة المخيلة.
الساعة السحرية
في الظهيرة، كانت الألوان تنساب على وجوه المعزين، ألوانٌ في منتهى الألفة، وبالغ الجمال، تتحرك بخفة على الأشياء، الوجوه، الثياب، والعواطف، والبكاء، والانفعالات، والآهات، والدمع، والترنيمة الشجية التي يُطلقها (كورس الحضور) مع كل نهاية شطر في بيت أبيات الشعر الجنائزية.
إننا نبكي ألواناً؛ في المأتم الصغير الذي تربيت فيه، كنا نبكي دموعاً ملونة، تصطبغ فيها غِتَر وملابس ووجوه ولحى وعيون الحاضرين المشدودين في خيط البكاء مثل حبّات المسبحة.
لا يمكنني الآن إلا إدراك ما فعلته بي تلك المجالس المهيبة، إلا أن أعترف بالطقوسية العظيمة التي منها نشأت وعليها تربيت، لقد كان في تلك الصالة السوداء الصغيرة والعتيقة فناً عظيماً، شعراً وموسيقى، مسرحاً وتشكيلاً، وخيالاً يمكن التعويل عليه في بناء مخيلة لا تكف عن التأمل والتحديق.
إنه فنٌ يختلط فيه الصوت بالضوء بالكلمة بالصورة بالمعنى بالقيمة بالمبدأ وبالعاطفة المشبوبة والمتحرقة المتقرحة، فنٌ يصل لأقصى لحظات التجريد تارة، حين يعمّ الصمت المكان، ولا يعود مسموعاً سوى أنّاتٍ شجية متقطعة من هنا أو هناك، ثم في التارة الأخرى يغوص في التفاصيل الدقيقة والعميقة مثل منمنمة.
وهكذا، حينما أسأل نفسي الآن، من أين بدأت؟ لا يحضر أمامي سوى تلك الساعات السحرية التي كنت أجلس فيها في منتصف المأتم، متقرفصاً، أراقب رجالاً يبكون، ورجلاً في الأعلى يبدو مهوّماً الآن – بسبب نظري الضعيف ربما- يحكي قصصاً عن التضحية والبذل، وإيقاعاً سحرياً ينظّم بكاءهم، تاركاً مجالاً واسعاً للمخيلة لتبني هيئة وشكل وشخوص، كل تلك الحكايات.
أذكر أيضاً تلك اللحظة التي توقفت فيها عند مأتم النساء، الذي يقع خلف مأتمنا تماماً، جلست عند النافذة أستمع إلى العويل النسوي الكونيّ، كأنما هو نحيب الأبدية يرتطم في صدى العدم البعيد، حتى أني لم أنتبه للزجاجة التي جرحت يدي. وقتها -ربما- تساءلت ببساطة: لماذا ينوح العالم كله على هذا الرجل؟ وربما أحوّر السؤال الآن لأقول: (هل كان العالم وما يزال يبكي من خلال هذا الرجل، ومن خلال ما جرى له بحسب تصوّرنا، على كل خساراته؟).
يبدو واضحاً الآن أن الحالة الطقوسية التي رافقت علاقتي بالمآتم والعزاء في سنوات الطفولة، تذكّري للنساء وهنّ يطبخن في قدورهن الضخمة خلف منزلنا، موكب العزاء الذي كان يجوب العالم الكبير الذي كنت أعرفه -وهو ذاته القرية الصغيرة التي أعرفها الآن، التي بدورها تشكل في وعيي الراهن، رمزاً للعالم الكبير الذي أتجاهله- التشابيه والتمثيل البسيط، الليل الكئيب في محيط المأتم، البهجة المكبوتة، الشاي بالحليب، النسوة اللواتي يرسم الضوء الخافت حدود ملابسهن، مواء القطط المتصعلكة، سحر الجن والعفاريت الذي يأتي على هيئة ضباب من بين المزارع، كل هذا العالم شديد الغموض، المجرّد، الواضح، السلس، كان وراء كل حرف كتبته وأكتبه للآن، إنني أكتب من ذلك الزرنوق الضيّق الذي يفضي إلى ذلك العالم، ذلك الزرنوق الترابي المعتم الذي تحدّه نخلتان كبيرتان تهتزّان ولا تتوقفان عن الاهتزاز.
أنوات شتى
لا يمكن للشعر أن ينشأ بعيداً عن الفنون الأخرى. إن أصدق لحظة من لحظات الشعر هي تلك التي يكتشف فيها أنه وجد ليكون صاحباً لكل الجمال والإبداع، الجمال بعظمته، الجمال بقسوته، الجمال بعدميته، الجمال بقيمه، الجمال بحيرته، الجمال بكل ما يعنيه وما لا يستطيع أن يعنيه.
وأنا كنت محظوظاً حقاً، لأني تعرفت على المسرح منذ الطفولة، المسرح الذي يلعب فيه الإنسان دور الآلهة، فيصنع ليلاً ونهاراً، قرى ومدناً، شخصياتٍ وكائنات، ثم يضع لها أقدارها ومصائرها، ويدعها في الهباء تصارع حيواتها، وتنتصر وتُهزم، تبكي وتتألم، تضجّ بالضحك تارة، وتتساءل عن وجودها تارة. كنت محظوظاً لأني اختبرت تلك اللحظة الخلّاقة التي يقف فيها شخصٌ ما، متمثلاً قدر ومصير وحياة شخصٍ آخرَ سواه، ينفعل نيابة عنه، ويتساءل بلسانه، يتقمصه، يكونه، يصيره، ويتجلّى فيه.
إن إغراء المسرح بالنسبة لشاعرٍ مثلي لا يتوقف عند هذه الحدود، فما إن تقف مقابل الجمهور القابع في الظلام، ما إن تشعر بتلك الرهبة الخفية من الرقيب في العتمة، حتى تتفتح أمامك كل أسئلة الوجود. وأذكر تماماً كيف اختلط عليّ أمر الله والجمهور في أول عروض اسكتش (التمثايل) الذي معه صعدت للمرة الثانية على خشبة المسرح. أذكر كيف شعرت بالوحدة الكونية في لحظة الصمت تلك التي وقفت فيها على الخشبة، وأنا أعرف أن ثمة من يراقبني، لكني لا أراه. وللمرة الثانية، كان لضعف بصري دوراً مهماً في جعلي ألجأ إلى الخيال، ألجأ إلى الأسئلة، وألجأ إلى الخوف.
حليب الزمن
كانت الطائرات تحلّق سوداء، على ارتفاعٍ قريب، ثم ما تلبث أن تقترب أكثر لتقصف كل شيء، المباني، الناس، الذكريات، الوهم المصنوع من الخشب، فيما يتمازج صوت هديرها بصوت موسيقى عمر خيرت في فيلم (ليلة القبض على فاطمة). كان ذلك هو الجزء الأخير من مسرحية (العطش) التي قدمها نادي بوري نهاية الثمانينات. شعرت ليلتها بثقل الدمار، عدت إلى البيت بشجنٍ مبهم، ونبوءة غريبة تسيطر عليّ، وخفت كثيراً، خفت على كل شيء حولي، أهلي، منزلي، نفسي، سمائي وأرضي، وتمسكت بكل شيء خوف أن أفقده، وكثيراً كثيراً لحستُ الكلس العالق في جدار الغرفة الطينية التي كنت أنام فيها وقتها، وشعرت بملوحة عذبة، كمن يرضع من حليب الزمن.
وأخر يابسات
لسنوات كثيرة كتبت في ظلام يخصنّي، الصدفة وحدها هي التي تُطلع أحداً ما على ما أكتب، دفاتري التي كتبت فيها كنت أحتفظ بها لي وحدي، وقصيدةً بعد أخرى، ودفتراً بعد آخر، وسنةً تلو سنة، كنت أحتفظ بعزلتي، وأبني جداري حول ما أكتبه، لأجعل الآخرين ينسون أني أكتب، وهو الأمر الذي لم يحدث حقاً، لأسباب لا أعرفها، ربما من بينها أني إضافة إلى التدوين في الدفاتر، كنت أسجّل قصائدي على كاسيتات، زيادة في الحفظ من جهة، ولأني كنتُ موقناً أن الشعر فنٌ قولي، وإلقاؤه جزء أصيل من ماهيته، وما حدث أن أحداً ما من العائلة، سرّب بعض التسجيلات، فحدّثني أكثر من شخص عنها، ووقتها شعرت بالحرج الشديد، وقطعت هذه العادة لفترة، محتفظاً بالكتابة كشكل وحيد للتسجيل.
لقد حميت نفسي بهذه العزلة، حميت قصيدتي، كنت أكثر حرية في تغيير الشكل الذي أكتب من خلاله، لم يكن في ذهني وقتها أي متلقٍ سواي، لذلك فقد جرّبت كثيراً، وحين أعود الآن لتلك القصائد أستطيع أن أستنقذ كثير من النصوص التي كانت على درجة من التجريبية، وكذلك على درجة من الصدق الداخلي، الآن حين أعود لها أعرف كم كنتُ كائناً لصيقاً بالشعر، ولصيقاً بالعدم، ولصيقاً بالسجن الذاتي، ولصيقاً باللاجدوى. كانت القصيدة بالنسبة لي وسيلة لأصطدم بجدران العالم، لأتحاور معه، لأغلق الباب في وجهه، لأهرب عنه، لأحتضنه.
إنني أظن أن عزلتي كانت مختلفة كثيراً عن فكرة العزلة التي يطرحها كثير من الشعراء، لقد كانت عزلة تخص الشعر والكتابة، كنت أخفي تلك الشخصية الشاعرة، بينما كان ثمة شخصية أخرى ظاهرة للعيان، كنت أخفي وجع الكتابة، وأظهر شخصية تحاول أن تبدو اجتماعية لحدّ ما، بالرغم من أن الشخصية المنعزلة كانت هي الأقدر على الظهور غالباً، ذلك ربما أعانني على اكتساب درجة من التأمل، أفادني فيما يخص الكتابة كما فيما يخص المسرح.
بساط الريح
في شاحنة التبريد حيث عملت لأكثر من عامين، كانت النهارات الطويلة والمتعبة كافية للصمت، كافية للتحديق في الشوارع والسيارات والمارة والبيوت، كافية لجعلي أتفتت في هذا الفراغ المشحون، وكافية أيضاً لأملأ نفسي بالتحديق في الناس، تلفتني وجوه العمال الحزينة، وجوه النساء المتكبرة، وجوه المسنين التائهة، ولطالما ظننت أنني أستطيع النظر حتى الأبد إلى هذه الوجوه، ليس لبناء قصص حولها، ولا لمعرفة ماضيها أو تخيّل مستقبلها، لكن كان الأمر أشبه بالنظر إلى الأعمال التشكيلية، كان الأمر أشبه بالتأمل الفلسفي العميق في فكرة ما، أو سؤال محيّر، لم يكن للأمر هدفٌ نهائي، كانت الحالة التي تعتريني وأنا أحدّق في الوجوه هي الهدف الأقصى التي أبتغيه، والذي يجعلني أكثر التحديق في وجوه الناس.
في أغلب الأعمال التي عملت فيها، حظيت بهذه الفرصة الرائعة، أن أرى، أن أصمت وأرى وأحدق في الآخرين، كنتُ كائناً لا مرئياً، وهذا سهّل الأمر غالباً، ومعي حملتُ جبال الصمت الكثير الذي عشته، ومعي كتبت هذا الصمت المأخوذ بنفسه.
إنني كذلك صنيعة هذه الريح العظيمة التي حملتني من طفولتي حتى الرجل الذي أنا عليه الآن، ريح السكوت الرائعة التي منحتني قدرة استبطان الأشخاص والأفكار والحوادث، وربما أكون مبالغاً في تقدير قدرتي هذه، فأحكم على الناس بقسوة وحدّية، لكني أثق أن هذه الريح لم تخذلني مطلقاً، لقد عرّفتني بطريقة العيش التي اخترتها، وطريقة التفكير التي تبنيتها. عرّفتني على الثقة، الثقة التي تجعلني أسقط بسهولة، وأنهض بسهولة، دون خشية، دون حساب.
ينبغي للكاتب أن يختار صمته بعناية، أن يختار كيف يصمت، ولماذا وأين، إن الصمت في الغرف المغلقة لم يعنِ لي شيئاً، إن صمتاً لا يريك العالم، لا يأخذ يدك ويدلّك على الناس، على حيواتهم وهواجسهم لن يعطيك سوى الفتات، فقط ذلك الصمت المرتبط بالنظرة العميقة للعالم، الصمت الذي ينشب أظفاره في رقبة الحياة ذاتها، ويتمسّك بكل قوته في الحدّ الفاصل بين الخارج الذي ليس لك، والداخل الذي لا محل لك فيه.. ذلك هو الصمت ذو المعنى، الصمت الذي يستحق أن يُعتنى به.
الوليد يرضع من ثدي التجربة
لقد ولدنا من جديد، وها نحن نتعلم كيف نعيش بالطريقة الجديدة التي تلت 14 فبراير 2011م، وهذه الولادة الجديدة تمت بالفعل، غير عابئة بالنتائج السياسية التي تخلص إليها تلك الحركة التي ولدنا من رحمها، كل ما في الأمر أننا ولدنا بذاكرة من حياة ماضية، بعضنا لم يستطع التخلص من تلك الذاكرة ليعتاد العيش على حياته الجديدة، وبعضنا الآخر قرر أن يعيش مثل وليد، أن يرضع من ثدي التجربة، وأن يعبث ويكتشف ويتحرك ويشاغب وينهض ويسقط، وأنا اخترت أن أبدأ كوليد، بي ثقة فقط في المبادئ الجديدة التي ولدت من خلالها، وما عدا ذلك لا ثقة لي به، ومثل طفل، شاغبت وكسرت، غضبت وأخذتني الحدّة، رفضت وحلمت، وكلما شعرت بالضياع لجأت إلى أمي (الإنسان) لأعرف من أنا.
كشاعر، كانت هذه التجربة غنيمتي الحقيقية من الحياة، أستطيع أن أرفع قصيدتي وأقول: أجل لقد كتبت في 2011 وما بعده، لقد عرفت كيف أحافظ على إنسانيتي، وكتتمة لهذا نشرت مجموعتي الشعرية (وهذا أيضاً ليس شعراً) إلكترونياً، أنا الكائن الذي يبحث عن حريته، أنا الكائن الوليد الذي لا يريد أن تحدّه عتمة الدولة الجاهلة، وخلال فترة كتابة هذه المجموعة وضعت نفسي بين حدين، الأول أن أكتب عن حريتي، والثاني أن أكتب بها ومن خلالها، أن أكون حرّاً في الكتابة حول الشهيد أو العجلة التي دهسته، أو أن أكتب قصيدة حب، أو أن أكتب حول ذاتي، لستُ سجيناً لحريتي، ولا أريد أن أكون.
خلال فترة كتابة هذه المجموعة، أو فلنقل نصوص ما بعد فبراير 2011م لا شكل لها، ليست شعراً، ولا نثراً، ولا مسرحاً، ليس لها معنى واضح، ولا تريد، لا تتكئ على اللغة ولا تهملها، بعد هذا التاريخ، أنا أجرّب حريتي، أختبرها، أنا أجرّب حياتي وأختبرها.. بعد هذا التاريخ ثمة قيم كاملة داخلي تغيرت، وفي رأيي أن الثورات لا تهدف أساساً إلى تغيير أنظمة، أو تغيير سياسي، بقدر ما تهدف إلى تغيير الناس، وأنا تغيرت، وأتغير.. منذ ذلك الحين، بدأت في النمو، ولن أتوقف.
8
الليلة أنجزت هذه الشهادة، ابتسمت وأنا أعيد قراءتها، سرت بي رغبة لتمزيقها، ورغبة أخرى في تسجيلها صوتياً دون مواجهتكم، الليلة وأنا ممتلئ بدخان الشيشة والسجائر رأيت على صفحات الدفتر الذي كتبت بعض أجزاء الشهادة عليه؛ مفرداتٍ تحاول الفرار من النص، وأخرى تحاول الولوج فيه، أفكاراً تحاول أن تباعد بين قضبان التأويل لتدخل من خلالها إلى المعنى، وأخرى تناولني الممحاة وهي تهزّ رؤوسها مستنكرة..
الليلة أنجزت هذه الشهادة، وقلت في نفسي، ليكن.. الأجمل فيك أنك أقدر الناس على النسيان، وبعد فترة من الآن لن تتذكر أي شيء من هذا، وسيكون عليك أن تدلي بشهادة أخرى، مختلفة كلياً، ولكنها مثل هذي.. لا معنى لها.
* مقدّمة إلى فعالية (وجود للثقافة)، مقرّ دار فراديس للنشر 26 يناير 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق