1
قال الله: خُلِقتَ لتَعبُد، قالت الطبيعة: خُلقتَ لتتكاثر، قالت الصدفة: خُلقتَ لتموت، قالت الفلسفة: خُلقتَ لتفكر، قال الإنسان: خُلقتُ لأحتار، قال الإنسان نفسه: أما أنا فسأختار، لي الحرية في هذا كله، أعبد/ ألحد، أتكاثر/ أتعاقم، أحيا/ أموت، أفكر/ أتحامق. ليس للملائكة إلا الشفقة، ولا للشياطين إلا اللعنة، لكني الملعون المسكين، الطائع المتمرد، السؤال السائل، أنا الشيء، أنا اللاشيء، أنا الأشياء دون معنى، أنا معنى الأمر ونقيضه.
حقيقة، إننا لا نبحث عن المعنى نفسه، إننا نبحث عن الطمأنينة، أياً كان شكلها، أياً كان مزاجها، مرةً نخالها في التسليم، الخضوع، فنذلّ ونحني رؤوسنا، ونمشي مطأطئين، حتى تُحشى عيوننا بالطين والتراب والحصى، لكننا نفاجأ بصوت من أعماقنا، يشير نحو الهاوية، ويقول: من هنا.. من هنا، اتبعني. فنرفع رؤوسنا عاليًا، ونعدو غير آبهين، بشجاعة حمقاء، بتفلت لا يُلمّ، هكذا مثل قطيع من المنتحرين، نقع في السماء، وأنوفنا في السحاب. مرة نخالها في المعرفة، الإدراك، لكننا كذلك، وليس لنا سوى ذلك الصوت، قادمًا من الجهل العميق مثل فراغٍ أسطواني داعيًا إيانا للسقوط، من أعلى جبلنا المتوهم حتى هاوية الضياع، وليس لنا المعنى، وليس لنا طمأنينته.
2
لكننا في المقابل، لا نشعر باليأس، حتى إن شعورنا باليأس هو ذاته بحث عن سبيل، ربما غيبي ومجهول ولا يمكن التحقق منه جماعيًا أو التثبّت من نهايته، لكنه يظل كذلك بحثًا عن شيء نلتجئ نحوه، نطمئن بحذاه، وهكذا وهكذا، ليس لنا إلا المعنى، إلا البحث عنه، أو تتبعه، إننا نبحث عن معنى ليشعرنا بقربنا من الخلق، من فكرة السيطرة، من فكرة الإحاطة. وإن كان قدرنا أن نكون آلهة وعبيدا في الوقت نفسه، فعلينا إذن مغالبة هذا الصراع داخلنا بين إيجاد المعنى أو اليأس منه، في لحظة نجد معاني وتفاسير وتأويلات وتخييلات ومعادِلات، وفي اللحظة التالية نتخلى عن ذلك كله، أو يتخلى عنا، لنجد المعنى كله، في اليأس منه، ذلك البياض الأعمى، والراحة السوداء.
ولهذا فالشعر ذلك الكائن الملتبس، المتلون، والمتردد، والمتأتئ، خير من يمكن أن يمثل هذا القدر، يشارك الفلاسفة والعلماء ثقتهم تحت عباءة الألوهية، وكذلك يلتحف مع المتصوفة والزهّاد أسمال عبوديتهم، ولهذا كذلك، رغبت أنا في الشعر ربما، إذ من يمكنه الحديث بثقة طوال الوقت؟ من يمكنه أن يكون متدينًا دائمًا، أو ملحدًا أبدًا؟ من يمكنه أن يكون متفائلاً في كل الأوقات، أو متشائمًا باستمرار؟ عطوفاً في كل حالاته، أو قاسيًا في خط مستقيم؟ تلك اللعنة لغيري، أما أنا فأود اختبار كل ذلك، أو لا أود، بل عليّ، عليّ اختبار كل ذلك، لا لأخرج بنتيجة نهائية ألوذ بها، إنما لأحافظ على ذلك الطنين في رأسي، تلك الأفكار التي تروح وتجيء فيه، حية، حائرة، وعلى غير هدى.
عليّ أن أنظر نحو الشيء، أتأمله وأتملّاه، مقتنعًا بأنه وكما يمكنني أنا أن أفكر في الأمر ونقيضه فهو الآخر يمكن أن يجمع بين نقيضين دون خلل، فتعدد أوجهه يعطيه قدرة الاختلاف، وتعدد تأويلاته يمنحه إمكانية الانفتاح على معان مختلفة، ليس الأمرّ فيّ وحدي ولا فيه وحده، إنه مواجهة بيننا، أنا وما أفكر فيه، أنا والمفهوم الذي أتناوله، لكن أيضاً ثمة في المنتصف بيني وبينه هنالك اللغة، التي تمنحني القدرة على تسميته وتناوله والتفكير فيه، والتي تمنحه القدرة على تغيير هيئته في ذهني، واللغة الشعرية على وجه الخصوص، القادرة على قلب الأشياء والأشخاص إلى مفاهيم ثم تجريد هذه المفاهيم إلى ظلال، أو ما يمكن إطلاق صفة مشاعر عليها، فتمكّنني من البكاء كلما قلتُ حجراً مثلاً، المفردة وحدها تلفظ، لكن فيما وراءها، ثمة أفكار وأحداث وتواريخ وأشخاص تنسل وتتناسل في زمنٍ غير محدد وغير معلوم لتوصلني أو توصلكم إلى البكاء، فحجر تدل على قبر وقبر يدل على شخص، أو حجر يدّل على انتظار وانتظار يدلّ على حسرة، وحجرٌ يدلّ على وطن ووطن يدلّ على خسارة، وحجرٌ يدل على سرّ وسرّ يدلّ على جريمة، وهكذا أيها الشعر، يا موسّع اللغة ومجرّدها، يمكنني معك أن (أتلاعب بالمعنى) ويمكنني أن أجعله يتلاعب بنا.. أنا وأنت.
3
أذكر، حين لا ذاكرة لي، صعودنا على نخيل القرى بحثاً عن بيض الحمام، قيل لنا، إن دَهن سواعدنا به يقويها، قيل، إنه كلما طالت النخلة وبَعُد العش، كلما قوي مفعول البيض، فكنا نمدّ أكفنا الصغيرة في الأعشاش البعيدة محاولين الحصول على بيضة أو بيضتين، ومن الخوف؛ كان أغلبها يقع، كان أغلبنا يقع. لكننا بعدها بزمن عرفنا، أن صعودنا النخل هو ما قوّانا، وأن بيض الحمام مجرد خدعة آباء أرادوا لأولادهم قوة العمل في الحقل. وهكذا تماماً صعدت نخيل المعنى في الشعر، وهكذا تماماً، أقع في كل مرة أبحث فيها عن معنى.
لا يمكنك في الشعر إلا أن تولّد المعنى من المعنى، والدلالة من الدلالة، إنها لعبة التأويل في لغة الشعر، التأويل الذي يجعل من اللغة ترقص بتناغم مع مشاعرك، رقصاً تعبيرياً فائق القدرة والدهشة ليصل بك إلى مستويات عليا من الغياب في المعنى، فتكون أنت ما تفكر فيه، ما تشعر به وما تحوم حوله.
ربما يكون أكثر ما يؤرقني الآن أن أتحدث عن تلك اللحظات التي لا أجد فيها ما أقوله، تلك اللحظات التي يغيب فيها المعنى كله عني، ليست المسألة في الكتابة بحد ذاتها، قد تتوقف الكتابة لسنوات، لكني مع ذلك أجد ما أقوله لنفسي، وأفكر في الأشياء، لكن أن تتوقف الأفكار (الفارقة) عن المرور على عقلي، أن تصبح الأشياء كلها صفحات بيضاء ولا يشغل بالي سوى اليومي من أمور الحياة، إنها لحظات عصيبة حقاً، حزينة ومخيفة، ولطالما كانت وسيلتي للخروج من أسر هذه الأوقات التفكير بهذه الطريقة، الرقص مع اللغة، أملأ نفسي بالغائر من مشاعري، تلك التي أخشاها، أو أتفاداها، وأدعها تقودني نحو اللغة، واللغة تقودني نحو النص، كلمة كلمة، تنحتني، تهدّني، تجرفني وتعيدني نحو شاطئ لا أعرف أين يكون، لا أعلم إن كان هذا هو التداعي الحرّ، أو النص المفتوح، يعجبني أن أسميه رقصاً، لكنه الشرط الذي يعيدني إلى أول اللحظة التي قال فيها الله (إني جاعلٌ في الأرض خليفة) تلك اللحظة التي قرر فيها الرب أن يهبني عقلاً، لا لأفكر في اليومي وأساليب البقاء ليوم آخر وأنجو من الجوع أو المرض أو الموت فريسة بين فكي حيوان مفترس، بل لأفكر في الأبدي ومعنى وجودي هنا والآن، أي أن أفكر في حريتي في الاختيار بين المعنى ونقيضه، حريتي في أن أكون إلهًا أو عبدًا.
4
«في المسرح، وكممثل بالتحديد، يحدث أحيانًا أن أنسى أجزاء من الحوار في النص (خصوصًا في أيام التدريبات الأولى)، وتعويضًا لهذه الأجزاء المنسية، قد أستدعي حينًا مفردات أخرى، أعتقدها مناسبة للتعبير عما يودّ النص قوله، أحيانًا أستدعي جملاً لأرمم في ذهني ما خرّبه النسيان، أتوهّم معنى ما وعلى أساسه أصيغ عبارات تنتمي أو لا تنتمي لمعنى النص الأصلي، أفكر الآن، ماذا يحدث حينها؟ هل أخرج على معنى النص الثابت؟ هل أحاول عبر اللاوعي خلق نص بديل؟ هل هذه هي وظيفتي كمخرج مسرحي؟ أن أنسى ثم أتذكر ما أريد أن أتذكره، ثم أتوهم فأخلق نصًا جديدًا مصاغا مني ومن النص. نص، هو رغبتي فيه، هو ما أريده دون أن أعي أنا نفسي منه؟
لا يحدث النسيان عفويًا دائمًا، هو أيضاً فعل إلغاء، فكرة ما يرفضها العقل والوعي، ويحاول استبدالها عبر عملية معقدة، تبدأ بمحو الأجزاء المناقضة للتناغم في العقل، وأقصد بالتناغم هنا، ما يتناغم ورؤية الناسي للأشياء أي أفكاره حولها، ثم يشوّه العقل تلك الأجزاء أو يموهها، وبعد ذلك يبدأ عملية إحلال معان قريبة منها في الأجزاء، وكأنها خلفية لصورة ممحوة، ثم تجري عملية الاستبدال هذه مرة بعد أخرى ينقص شيء، ويضاف إليه شيء آخر جديد، إلى أن تصل إلى القناعة الأخيرة، أو الأخيرة مؤقتًا، النسيان في هذه الحالة هو عملية إصلاح، أو إعادة تهيئة للنص بحيث يكون متسقًا مع ما يتبناه الناص.
ولكن لماذا نحتاج للنسيان لنعيد تهيئة النص؟ في أغلب الحالات نحن لا نستطيع تغيير النص، لكننا فقط نغير فهمنا للنص، وجزء من هذا يفعله العقل حتى مع وجود النص الماثل، ولكن أيضاً جزء آخر يتم في غياب النص، بل لا بد أن يتم في غياب النص، لأن العقل في حضور النص لن يكون قادرًا على الخروج من سطوة المعنى المنطقي لما يحمله، ولذلك فإن النسيان هو الحل الأمثل للتلاعب بالمعنى، ليس بالمعنى السلبي لكلمة تلاعب، ولكن التلاعب بقصد الخروج من أسر النص إلى فضاء أبعد هو (كتابة) نص آخر على هذا النص دون الإعلان عن ذلك، عبر عملية (عفوية) كما يظهر، وغير مقصودة.. ولا واعية، هي.. النسيان.
غير أننا في النهاية نخالف هذه الطبيعة البشرية بالعودة دائمًا إلى (النص- المعنى) باعتباره مرجعًا، إننا وخصوصاً لدى التعامل مع (النص المقدّس أو الأفكار المقدسة) لا نستطيع الخروج إلى مناطق العقل، لذلك نعود دائمًا إلى النص، وحتى لو استطاع عقلنا أن يعدّ لنا فهمًا مختلفاً عبر خلقه لوهم ما في البنية اللغوية لنص ما، فنحن نعود لنهدم ما بناه هذا اللاوعي عبر العودة إلى النص، عقلنا يريد لأفكارنا المتسقة مع رؤانا أن تُظهر شخصياتنا الحقيقية بعيدًا عن النص، بينما وجداننا يقودنا مرة بعد أخرى إلى النص/الفكرة، بحيث لا نستطيع الخروج عنه، إننا نعود إلى النص لا لنتذكره فقط، إننا نعود إلى النص لأننا نقاوم النسيان، لأننا لا نريد أن ننسى، لأن النسيان بمعنى من المعاني هو خلق هوية أخرى للنص، هوية تعنينا، بينما التذكّر التام هو هوية النص وفقط».
لذا وإذا ما عدنا إلى الشعر -باعتباره نصًا مائعًا، لا يقبل الثبات، ولا يتبناه- فإن جزءًا من وظائفه الأساسية هي النسيان، النسيان من أجل منحنا قدرة خلق نصوص جديدة على تلك التي نسيناها، أو أنسيناها، أو من الأجزاء التي نتذكر بعضها وننسى بعضها الآخر، فنخلق انحرافات رائعة في المعاني، انحرافات قد لا تخطر لنا على بال لو أننا جئناها بوعينا الكامل، وتذكرنا التام.
وعبر هذه العملية فإن الشعر الذي يُنسى ليس هو الأجدر بالترك كما قد يُتوهم، إنما في كثير من الأحيان، هو ذلك الذي يترك معاني مموهة، معان يمكن لها بسهولة أن تتحول وتتبدّل وتنتقل، مثل لوحة (فيديوية) متحركة، تلمس الروح، لكنها لا تترك أثرًا أو وشمًا. وذلك الذي تحتفظ به الذاكرة، وتحتفظ بمعانيه محددة وصريحة ومدقّقة، ليس هو الجدير بالأخذ دائمًا، إذ يمكن أن لا تكون سوى حرق في الذاكرة، لا يُنسى، لكنه لا يشفى ولا يشفي كذلك. ولا أعلم ما الذي جعل المدارس تجتهد علينا من أجل أن نحفظ نصوصًا بعينها، ونحفظ معانيها بذاتها كما أراد لها مفسّروها من الأساتذة والمتخصصين، وما الذي أنتجه هذا الجهد سوى تشويه ملكة النسيان لدينا، سوى تشويه قدرتنا كأطفال على التلاعب بالمعاني، وقدرتنا على تلوين وتحريك الأفكار والصور، وما الذي يخلّفه ذلك سوى مجموعة من حفظةٍ لا يتلفتون. وبالرغم من أنني أتذكر أن ملكة الحفظ عندي كانت جيدة وأنا بعدُ طفل، لكني لا أتذكر الآن كيف فقدتها شيئاً فشيئاً، حتى صرت أنسى ما كنتُ قد حفظته، وبهذا فأعتقد أني انتصرت لطفولتي، ولخيالي، وانتصرت كذلك للمعاني التي عادت تتحرك مرة أخرى حين ألقيتها في ماء النسيان.
5
لو نظر أحدنا في المرآة، ثم في لحظة واحدة مرّت أمامه صور أجداده كلهم، أولئك الذين أخذ عنهم ملامحهم، تكوير الأنف، زمّة الشفة، الشعر، صلع الشعر، حدّة البصر أو ضعفه، لون العينين، امتلاء الوجنتين، طريقة التحديق، الجفون، الذقن، كل تفصيلة من كل جد، هل كان سيظنّ أنه متفرّد، هل سيشعر أنه مسخ؟
ثم لو نظر أحدنا في حديثه، لغته، طريقته في التفكير، طريقته في نطق الكلمات، تأتأته، همهماته، شروده بين المعنى والمعنى، ورأى من أين أخذ كل هذا، من جدّ أو أب أو أخ، أو جار، من شخصية كارتونية، أو بطل فيلم، من أستاذ مدرسته، أو عابر سبيل، هل سيشعر أحدنا هذا أنه مصنوع، أنه ليس سوى فرانكشتاين لغوي؟
اليوم فكرت في ذلك الشاعر وقد اكتسب كل ما لديه من هؤلاء الآخرين، ما الذين يجعلنا نقول إن لهذا الشاعر لغة خاصة؟! أو أن ذاك تحضر في لغته أشباح شعراء آخرين، كل ما في حكمته مبني على ما نعرف من الذين تأثر بهم، لكن في المقابل نحن نجهل في ذاك الشاعر ذي اللغة الخاصة من أين استقى لغته، ربما أخذها من أبيه، من عمه، من جارٍ ألثغ تعلم اللعب بحرفٍ ما، من صديقٍ يتأتئ تعلم ترديد الأصوات، من ابن حارة يمط الكلمات تعلم الإيقاع، إننا نجهل كل هذا، ونبني أحكامنا على ما نجهل، على ما لم نكتشف، ربما على الشاعر أن يكون حذرًا إذن، من أين يستقي لغته ومعانيه، عليه أن يكون مراوغًا ولا يأخذها مباشرة من شاعر ما، أن يبحث عن لغته في الشارع أو في البيت أو في الطبيعة.
هل يمكن أن يصنع شاعر لغته من الطبيعة؟! ومثل سليمان الحكيم يقدر أن يصنع لغة فيها من زقزقة العصافير، ومن نباح الكلاب، من زئير الأسود، من نعيق الغربان ومن نقيق الضفادع؟ من أزيز المحركات، من خرير الماء، لغة لا تعتمد الكلمات بل الصوت، الصوت باعتباره البنية الأولى لكل الكلمات.
كيف يمكن أن تولد لغة ذلك؟ أي كيف يتولد معنى قبل أن تتهيأ الكلمات بمعناها، وتتخذ شكلها الذي حين تترابط في جملة تمنح معنى، هل يمكن لهلوسة ما أن تعطي شعورًا حين ندفق فيها عن عمد حروفًا بعينها؟ كيف تحمل الحروف معاني؟
مرة حاولت ترجمة قصيدة جاهلية إلى العربية! كان هدفي هو أن أثبت لنفسي أن الشعر الجاهلي (بالتحديد) لا يترجم، يفقد أهم ما يميزه، وهو بنيته الإيقاعية، لا.. يفقد (دهشة الجهل) أولاً ثم هذي البنية الإيقاعية. ما الذي يجعل الموسيقى لغة ولا يجعل الشعر الجاهلي موسيقى خاصة؟ إننا حتى مع معرفتنا بمعاني كثير من المفردات قد نضيّع المعنى فيه، مفردة لها أكثر من معنى، مجاز يحتمل أكثر من تأويل، قد يفقدك البوصلة في الشعر، وهذا الضياع جزء من الشعر يمكن تسميته بالـ (الجهل المدهش).
6
ليس شعرًا، وما ينبغي لي أن أعرف الشعر، هذا الكلام المعمّى، عصا التائه في الظلمة، هذا السجع بين القبر والقبر، انتظار الصرير، هذا التفكّك، الحكّة، اللهاث، دبيب الخلود على جلد صخرةٍ، ليس شعرًا هذا، وما ينبغي أن يكون.
هذا التعثّر في المعنى، وليس الغموض، هذا إشارةٌ نحو مجهولٍ بلا إصبعَ، هذا الرجوع نحو الخوف، هذا تفسّخ الخفّة، هذا شجرٌ ينبت في الحلق، وهذا وجعي إذ أصمّ أذني عما يقولون، هذا كلامٌ محض، فلا تنسبوه للشعر جزافاً، دعوا القصيدة عذراء، وهاتوا عصيكم في كلامي، اطعنوه، لا تشفقوا عليه، كلامٌ ميت ومن خلفه تجيء الجثث الحية.
اتركوا الشعر ينجو، وثبتوا في الصليب هذا الكلام، دقّوا مساميركم، وقولوا قتلناه، هذا.. وما ينبغي أن يكونه.
7
رأيت المعاني تتدفق مثل ينبوع لا ينضب، أفكار ومعاني وصور ومشاعر، دلالات وانعكاسات، تأويلات وتفاسير، قصص وحكايات، تأتي في خاطري مرة بعد أخرى كأنها موجات عظيمة تضرب بعنف، ثم تليها أخرى وأخرى، حتى شككت في جدّيتي في الكتابة، فكيف يكون جاداً من هو محاصر بكل هذه المعاني؟ كيف تقبض على معنى حين يكون المعنى محاصرًا بنفسه وحاضرًا بهذه القوة؟
حدث ذلك فيما بعد أحداث 2011 حتى الآن، حيث صار العالم العربي كله يغلي، ومشاهد الموت تتوالى برفقة مشاهد الحياة والكرامة، المظاهرات التي تواجه بالغازات المسيلة للدموع والرصاص الانشطاري والمطاطي والحي، مشاهد الفقر والجوع والدمار، البلطجة وتدنّي المستوى الإنساني، التضحية في لحظة استشهاد الشاعرة شيماء الصباغ، الخديعة والتحايل على الثورات، الانتهازيون، الفقراء الفقراء، الوجع غير المبرر، السوريون على أسرّة موتهم في شواطئ العالم، يوسف الموالي على شاطئ الجزيرة التابوت، لحم حسام الحداد بين مصدّ السيارة والجدار، هل حقاً أمتلك جرأة للتفكير بكل هذه المعاني؟ وهل أمتلك جرأة تجاهلها؟ تجاهل ما تفضي إليه، الله وهو يتحول من قضية فلسفية متعالية إلى حدثٍ يومي ملحّ، يتحول إلى سؤال مكتوم أو شعارٍ في تظاهرة (يا الله.. ما النا غيرك يا الله) كل هذا يحتاج إلى تدوين، تدوين يومي، قصيدة واحدة تنفصل وتتصل، تنقطع وتلتئم، كيف يمكن لمثل هذه الحكايات أن تخرج عن كونها مشاعر محضة، إلى أفكار، إلى شعر، إلى معانٍ أعمق من حدّة الغضب، أو الانزلاق نحو النحيب؟
إننا ككتاب في لحظة ما بعد 2011 مصابون حتمًا بانفجار المعنى، ليس الحدث وحده هو أزمتنا، ليس تعدده وتمدده وانفلاته، لكن كذلك وسائل توصيله، الصورة، الفيديو، في كل يوم ثمة المئات والمئات من هذه الوسائل، لست بمعزل عنها، إنها الأسئلة التي تحيط بك، تحاصرك، الأخبار التي لابد أن تحفزّك على التفكير فيها، ليس للإجابة عليها، إنما لكي تواجه شيئًا من أساها، بل أكثر من ذلك، ثمة النقاشات التي تجد نفسك في أوجها دون أن تكون مستعدًا لها، نقاشات هناك في تلك الوسائل، وأخرى تجري داخلك أنت، وإن كنت تختار جانبًا فهذا لا يعني أن فيك أشياء وأشياء من الجوانب الأخرى، كيف يمكن لنا أن نرتب أفكارنا اليوم، لذلك فإني وبعد كل هذه السنوات في خضم هذه التجربة، أجد نفسي للآن لا أدرك تمامًا ما الذي يستحق أن ينشر من نصوصي وما الذي لا يستحق، إنني أكتب اليوم، ومثل أي جندي في معركة أشمّ رائحة الموت، وأشعر بالدم يغطي وجهي، هذا المعنى المستمر كذلك يمكنه أن يعيق المعنى، أو على الأقل يمكنه أن يشوشه، لذا أعتقد أننا غير ملزمين إلا بالكتابة، وثمة - إن جاء - وقت لاحق، سنتحقق أو يتحقق غيرنا مما كتبنا، مما إن كان يستحق أن يتصل بالزمن ويشكل حلقة في المعنى المستمر الذي تنتجه الأمم لتسجيل أفكارها وتصوراتها حول نفسها في وقت ما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق