تتقطر الأصوات







حين نموت، يقولون إن كل حواسنا تتعطل فيما عدا حاسة السمع، ليس مهماً إن كان الأمر خرافة، أو إن كان لا علاقة له بالحقائق العلمية أو المجاهيل العلمية، يغريني في الأمر تكثيف الحواس هذا، ارتكازها في حاسة واحدة، وأن تكون الحاسة الوحيدة هي حاسة السمع، يرتبط السمع دائماً بالخيال، حين تغمض عينيك وتبدأ في الإصغاء تتقطر الأصوات في أذنيك من أماكن بعيدة، تسمع هديلاً بعيداً أو نقيقاً متخيلاً، طنين طائر، أو هدير محرك، أو قد تركب أكثر من صوت فتتخيل صورة في ذهنك لما سيكون عليه الكائن الذي يمتلك هذا الصوت، السمع حاسة خاصة حقاً، الحاسة الوحيدة المفتوحة، والتي لا يمكنك إغلاقها، لا شفاه حولها تمنع الصوت من الوصول إليها، لا أجفان تحميها مما لا تريد من الكلام، لا تستطيع قبضها لئلا تصل الأصوات إليها. أذنان مفتوحتان وجاهزتان لسماع الأصوات والكلمات والهمهمات والحشرجات، أذنان جاهزتان للجمال كله، وللقبح كله، متصلتان مباشرة بعقل يستطيع هو أن يحرف شيئا مما يصل إليه، أو يتجاهل شيئاً آخر، لكنه لا يقدر على منع الأشياء من أن تجد طريقها نحوه. صدقوني وأنا أحدثكم الآن، لم تخطر ببالي الموسيقى، إنما خطرت لي أصوات الحيوانات والأشياء، وربما همهمات الناس غير المفهومة في الأماكن المحتشدة، تلك الفوضى عديمة المعنى، حيث يمكنك تخيل رفيف جناح ملاك، أو قرقعة ذيل الشيطان، كل منا له الحق في تخيل الصوت الذي يصله، فبرغم انفتاح حاسة السمع، لكن الفوضى التي تنتج عن هذا الانفتاح، غالباً يمكن تقنينها، صقلها، سوقها في أي اتجاه نريد.
بالعودة للموت، يقولون أيضاً إن الميت يسمع نواح أهله عليه، غير قادر على الحركة، لكنك تسمع أحباءك يبكونك، أي قسوة! سأحب أن أتخيل نواحهم غناءً، أو حداءً بعيداً لقوافل العدم المتلاشية في السواد، سأحب تخيله طقطقة كؤوس الأزل السكران، وهو يستقبلني ميتاً جديداً في عالم لا شيء فيه سوى الصمت، سوى الإصغاء العميق له وهو يتلون مثل حرباء ويمد لسانه للغيب.

ليست هناك تعليقات: