يرى الكاتب المسرحي والناقد العراقي مناضل داوود في كتابه النقدي الأول (مسرح التعزية في العراق) الصادر عن دار المدى أن فرصةً كبيرة ضاعت على المسرح العراقي تتمثل في الإنتباه للإرث المسرحي الغني في الفرجة المسرحية وطقوس التعزية العاشورائية التي ظهرت في العراق خلال القرن الرابع الهجري, وذلك حين تأسس المسرح العراقي على يد رائده الأستاذ حقي الشبلي إبان فترة الإستعمار البريطاني.
ويرى أن أسباب غياب مسرح التعزية في العراق كانت أسباباً نابعة من السلطات العراقية المتتابعة أولاً والتي كانت في أغلبها سلطات طائفية, حاولت دائماً أن تبعد أية فكرة تقوم على أساس (الوجود الشيعي في العراق), وثاني هذه الأسباب كان من داخل ذهنيات المثقفين والمسرحيين العراقيين, فالمخرجين العراقييين في بدايات المسرح العراقي درسوا غالباً في دول أوروبية ما جعلهم يستحضرون تجاربهم الجاهزة من الغرب, دون البحث عن استلهام الإرث الحضاري العراقي والمتمثل في المسرح الديني (التعزية الحسينية) مادة لنصوص عروضهم المسرحية, وهذا الإستلهام من التراث هي الفكرة التي نشأت بها ومن خلالها أكثر مسارح العالم.
البكاء الجماعي.. تناسل الأسطورة
ويستعرض داوود في كتابه ثلاثة نصوص مسرحية تتميّز بالتنوّع الزمني والمكاني, حيث يعرض أولاً لنص فارسي قديم بعنوان (آلام الحسين) أو (مأساة كربلاء) وفي هذا النص يبرز بوضوح المخيال السردي الشيعي الذي صاحب تكوّن معركة كربلاء كحدث أسطوري, ويبيّن النصّ الذي يتكوّن من ثلاثة مشاهد ذلك التمازج بين الحدث التاريخي, والحدث التوّهمي الدرامي, ويؤكد الكاتب على أهمية الخيال الفارسي المرتبط بالأفكار الأسطورية في تحميل مشاهد التعزية الحسينية بهذه الميثيولوجيا المرتبطة بالقدر, في كل الأحداث المرتبطة (بالبطل/الحسين) سواء في ولادته أو ما قبل ذلك في قصة تزويج والديه, وحتى أحداث كربلاء وما بعدها, ثم يختم النص بتصوّر (يوم الحساب ونقاش درامي بين الحسين ونبي الله يعقوب حول أيهما أكثر تعذّباً في الدنيا) وهنا لا يطرح الناقد العراقي مناضل داوود هذا السؤال للبحث, بل يبحث في أكثر في الفكر المسرحي الذي أنتج هذه الشخصيات الدرامية بهذا الشكل الأسطوري المسرحي, ويحدد أوجه الشبه بين هذا النص المسرحي الفارسي الكلاسيكي القديم وبين النصوص الكلاسيكية من المسرح العالمي, في وضوح صورة البطل التراجيدي (النبيل) والقدرالمكتوب على هذه الشخصية التراجيدية, وحضور الجوقة المسرحية في هذا النص, وكذلك القصة المعروفة مسبقاً والمستوحاة من الملحمة الشعبية والأسطورية, إضافة إلى العنصر الهام وهو الخيال السحري الذي يحضر في شكل (الحلم) الذي يحضر كثيراً كمعادل موضوعي للفنتازيا اليونانية في قصة كربلاء, فيذكر النص الفارسي قصة حلم الحسين وهو طريح التراب أو ما يمكن أن يُدعى حلماً حين رأى شخصية (الجني جعفر) وهو قائد جيش الجن, الذي جاء لنصرة الحسين, ولكن (البطل النبيل) يرفض المساعدة القدرية, ليتمّ فصول التراجيديا عبر قصة السبي والأسر ورفع الرؤوس.
وفي النص الثاني يعرض الكاتب لنص الشاعر والكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي (الحسين ثائراً, الحسين شهيداً) إلا أنه يجد أن أسلوب التفعيلة وحالة السرد والرواية في مقابل الدرامية جعل من النص حالة (حكي) أكثر منه حالة معالجة درامية مدهشة, فيرى أن (من يشاهد مجالس التعزية لا يستطيع أن يكمل قراءة الشرقاوي).
ويعالج الكاتب في الجزء الثالث من معالجاته لنصوص التعزية الحسينية نص الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد (الحر الرياحي) الذي كتب في العام 1982م ولم يُعرض مسرحياً في العراق إلا في مهرجان بغداد المسرحي الرابع 1994م وأخرجه حينذاك المخرج العراقي كريم رشيد, ويتناول خلال معالجته أسلوب عبد الواحد في معالجة شخصيتين تقفان على طرفي النقيض في نص واحد هما شخصيتا (الحر الرياحي) و(شمر بن ذي الجوشن), فالحر الرياحي كانت هواجسه سبباً في أن يعيد النظر في موقفه وهو القائد الأموي في جيش يزيد ليلتحق بركب الحسين, أما هواجس الشمر فقد قادته إلى أن يلتحق بالجيش الأموي, بعد أن كان ممن بعثوا إلى الإمام الحسين برسائل تدعوه للقدوم للكوفة, ويكشف عبد الواحد في هذا النص قدرة على رسم الشخصية الدرامية في الفصلين الأولين من المسرحية التي تتناول في الفصل الأول شخصية الحر وفي الفصل الثاني شخصية الشمر وفي فصلها الأخير تعالج شخصية الشمر بشكل معاصر, وهو ما اعتبره الناقد نضال داوود إخلالاً من المؤلف أفقد النص قوته.
بعد ذلك يربط الباحث بين شخصية الحسين (الدرامية) وشخصيات درامية أسطورية أخرى من بينها شخصية (تموز) حين تعشق الإلهة أنانا الراعي تموز وتكون نهاية هذا العشق قدراًً تراجيدياً للعاشق الراعي, حين يقع تموز ضحية صراع حبيبته وأختها على قيادة العالم السفلي فتتشفّع له أخته على أن ينزل كل واحد من الأخوة ستة أشهر بدلاً عن تموز, ويقام (عزاءاً) جماعياً من أجل عودة تموز انتظاراً لعودة الحياة, وهذه القصة تتكرر أيضاً عند المصريين القدماء الذين يقيمون أيضاً عزائهم الجماعي على الإله (الشهيد) إيزوريس ويمثّلون مشاهد موته, وهنا في ضجة هذا النواح الجماعي يصبح مشروع (التعزية) مشروعاً سياسياً يطالب بعودة الجانب الخيّر من الإنسان أو الإله, ويستاءل الكاتب عمّا إذا كان هذا التشابه في القصة و(التعزية) بين كل هذه الشخصيات الميثيولوجية وبين الحسين مجرد تشابه من قبيل المصادفة أم أنه نتاج للخيال الشعبي الذي يعتبر أهم العناصر الفنية في العرض المسرحي .
المسرحية الدينية في القرون الوسطى
في الفصل الثاني من الكتاب يعرض الكاتب لدور الكهنة في تأسيس المسرح الديني وفي دور الحركة القومية واللهجات في تفتيت هذا البناء وذلك أيضاً ما حدث في العراق بعد أن قامت المدارس الدينية المسيحية بتأسيس المسرح الديني العراقي في الموصل, وبقائها محصورة داخل جدران الكنائس إلى أن خرج النص عن صبغته الكهنوتية, ثم يعرض على التراجيديا في الفكر الشيعي المنتج للتعزية الحسينية فيرى أن هذه التراجيديا لم تبدأ مع الحسين وإن كانت قد توطّدت مع فاجعته وارتبطت به, فيرى أن بدايات نشوء هذا المذهب جاءت هي الأخرى في شكل تراجيدي, وأقطاب هذا المذهب الأوائل كسلمان الفارسي وعمار بن ياسر كانوا هم أيضاً شخصيات تحاط كثيراً بهالات أسطورية.
ومن خلال هذا يذهب الباحث في التعريف بأهمية (الطقس) كحالة درامية مترابطة مع الجانب الديني في تعزيز الحالة الدينية في المسرح, حيث تقول تمارا الكسندروفا: ( كان الفن المسرحي وجوداً في كل مكان , ومن قديم الزمان, وكما أن الأطفال يتميّزون بحبهم للتقليد والتشخيص فكذلك الأمر بالنسبة للشعوب في مرحلة طفولتها.
إن أي نوع من أنواع التحول بعتبر من أنواع التشخيص, وقد ظهر هذا الأخير في المواكب الإحتفالية الممسرحة في كل مكان, في الطقوس والعادات الغنية بالعناصر المسرحية, وفي اللوحات الدينية, وإذا كان الأسلام قد افتقد إلى الطقس كمنجز درامي, فقد استطاعت الطائفة الشيعية أن تعبّر عن هويّتها بمنجز التعزية والذي حمل في ماهيته الجدل والإختلاف).
ثم يرصد بعد ذلك الحيّز الزمني الذي تقام فيه هذه الطقوس وهي العشرة أيام, وكيفية تخصيصها لبعض شهداء المعركة, وللمراسيم التي تسبق وتتلو مشاهد التعزية ولدور الجوقة وهم عادةً يُشكّلون من عامة الناس في هذه المشاهد حيث يأخذون دوراً سردياً باعتبار أن القصة معروفة من قبل الجميع, ثم يحاول الكاتب استقراء دلالات كل من الطقوس التي تصاحب هذه المشاهد.
وثم في الفصل الثالث من الكتاب يستعرض الكاتب مظاهر هذه التعازي في المجتمع العراقي الحديث, فيوثّق هذه الطقوس من المجالس الحسينية الرجالية والنسائية وما يدور فيهما إلى الموكب الحسيني والتشابيه وهي الفرجة المسرحية الحقيقية التي تمهّد لها كل المشاهد السابقة.
يستخلص المؤلف من كل هذا نتيجة مسرحية ربما تكون أعمق من أن تحتسب على التراث المسرحي الديني (التعزية) أو على المسرح الحسيني, بل هي نتيجة تأتي لتوضّح لنا حسب ما يرى المؤلف كيف انشغل الكاتب والمخرج والممثل المسرحي العربي بتقليد المسرح الغربي في بدايات ظهوره, ثم حين ظنّ أنه عرف أهمية التراث العربي في استلهام وإعادة بناء مسرح عربي فعلي وقع ضحية صراع ثقافتين, فالنص العربي المأخوذ والمستلهم من التراث العربي عولج بأسلوب غربي, وفي النهاية لم يفطن بعد المسرحيون العرب إلى كيفية بعث فلسفتهم المسرحية الخاصة في المسرح لذلك بقيت تجاربهم تراوح محلها, ولذلك بقي مسرح التعزية الديني الإسلامي مجرد طقس من الطقوس الدينية قد يمرّ به مسرحي مثل بيتر بروك كما يحكي عنه كوتوفسكي في (نحو مسرح فقير) فيقول: ( شاهدت في قرية إيرانية نائية شيئاً من أقوى الأشياء التي شاهدتها في المسرح, في أيما وقت مضى.. مجموعة من أربعمائة قروي يجلسون تحت شجرة ينتقلون من هدير الضحكات إلى النحيب العلني, رغم أنهم يعرفون تماماً نهاية القصة, فقد شاهدوا الحسين سابقاً وهو يتعرّض لخطر القتل, وكيف كان يناور أعداءه.. واستشهاده بعدئذٍ, وعندما يموت الحسين يغدو شكل المسرح حقيقة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق