الخلق المتحول في العرض المسرحي

ليست اللغة عندما تنطق في فضاء العرض المسرحي هي ذاتها اللغة أو المفردات الدلالية التي يمكن أن نستشفّها في أي منتج لغوي ثقافياً كان أو غير ثقافي, وحتى في النص المسرحي بما هو "ورق" أو مادة مسرحية خام فإنه يختلف تماماً عند إنتاجه كعرض مسرحي, ثمة في المسرح تكامل بين معطيات حسيّة وعاطفية كثيرة, تختمر فيما بين المنتَج الثقافي المسرحي, وصانع هذا المنتج من كاتب ومعدّ ومخرج وممثل وسينوغرافي, وبين المتلقي المسرحي الحاضر ذهنياً والمستعد نفسياً وتخييلياً للتفاعل التام مع هذا المنتج.
هذا التكامل بين المعطيات يعدّ أساساً لغة ثانية, تُقرأ بصورة مغايرة تماماً لأي منتج ثقافي سردي آخر كالرواية أو القصة القصيرة أو السينما أو التلفزيون, وقد يكون الشعر هو الأقرب للمسرح من جهة مغايرة القراءة لما في الإثنين من انفتاح دلالي, غير أن المسرح يتميّز عن الشعر في كونه منتج تتعدد زوايا القراءة فيه, ولا تنحصر في النص الأدبي أو اللغوي, بل تنفتح فيه اللغة بمستويات أخرى, فيصبح جسد الممثل وصوته لغة, وتعبير وجهه وانفعالاته لغة, والضوء والظلمة فيه لغة, الحركة والسكون لغة, وأهم ما في الأمر هو اتفاق القراءة المضمرة بين المتلقّي والمؤدي –ليس بما هو ممثل وحسب, بل كل أدوات العرض المسرحي- والذي ينص على أن يساعد المتلقّي المؤدي عبر الإيمان المطلق بما يفعل طالما استطاع المؤدي أن يقنعه بصدق ما يفعل.
وهكذا فإن اللغة في المسرح تتقسم وتتنوع باختلاف ظروف وأدوات ومعطيات أي عرض مسرحي, وهي بذلك تصبح لغة متحولة ومتحركة ولا تركن إلى السكون مطلقاً, وتتميّز إضافة لتميّزها في اتفاق القراءة ذلك عن العروض الأدائية الأخرى في كونها قابلة دائماً لهذا التحول والتبدّل عبر منظمومة من الأدوات المسرحية التي توطّد فاعلية هذا التحوّل والتبدّل في العرض المسرحي, ومنها:

أولاً: أدوات العرض المسرحي:

1- الإعداد المسرحي:
إن أي نص مسرحي يشكّل خلية حية قابلة دائماً للتمدد والتجدد والتطوير, وأي نص مسرحي هو وحدة حيوية تحمل في مكوناتها عناصر البقاء, وركود وسكون أي نص مسرحي لا يعني بالضرورة موته أو اندثاره, لأن النص المسرحي غير خاضع لمشترطات النصوص الكتابية الأخرى, وغير خاضع أيضاً لمشترطات النصوص الأدائية الأخرى كالسينما والتلفزيون, إذ يحمل النص المسرحي شروطاً تؤهله لأن يتدحرج عبر الزمن ككرة الثلج, وتسمح له بأن يكون نصاً كتابياً سيئاً وفي الوقت ذاته نصاً مسرحياً جيداً, لأن النص المسرحي حتى وإن كان عملاً فردياً فهو بالضرورة عملاً جماعياً غير خاضع لمقتضيات زمنٍ ما أو مكانٍ ما.
والإعداد المسرحي هو إحدى السمات الفارقة التي تمنح النص المسرحي هذا القدر من البقاء عبر التحوّل والتغيّر الذي قد يقتضيه هذا الإعداد, وهنا يجب أن نميّز بين (إعداد) أي نص أدبي سردي أو شعري للاشتغال عليه في المسرح, وبين الإعداد المسرحي لنص المسرحي منجز, فالعملية الأولى تدخل ضمن كتابة نص مسرحي جديد, وإن كان باستيحاء من الرواية أو القصيدة, أما في العملية الثانية فإننا أمام ما يُدعى فعلياً بالإعداد المسرحي, فكثير من عمليات إعداد الروايات لإدخالها عالم المسرح, تُعدّ كتابة مسرحية مستقلّة, نظراً للاختلاف بين العالمين المسرحي والروائي, فإعداد أعمال روائية لكتاب من أمثال ديستوفسكي في روايته (الإخوة كارامازوف) أو (أجراس بال) لأرغون, تختلف تماماً عن إعداد أي عمل مسرحي لشكسبير أو تشيخوف أو ناظم حكمت أو سعد الله ونّوس.
وتختلف آليات إعداد النص المسرحي باختلاف النص نفسه, وباختلاف زمن الإعداد, والرؤية التي ترتكز عليها عملية الإعداد, وهذا التنوّع والتغيّر في آليات ومصادر إعداد النص المسرحي يعطي النص المسرحي القدرة على خلق حيوات أخرى متجددة عبر الرؤى والأزمان, إضافة للفضاء الجغرافي (واللساني) إذا ما اعتبرنا عملية تغيير الفضاء المكاني واللساني للأعمال المسرحية إعداداً.
2 - نص العرض.. رؤية المخرج:
(هل يجب علينا أن نحترم النص؟ أعتقد أن ثمة اتجاهاً صحياً مزدوجاً: الاحترام من ناحية, وعدم الاحترام من ناحية أخرى, والجدل بين هاتين الناحيتين هو جوهر المسألة, وأنت إذا مضيت في أحد السبيلين دون الآخر ضاعت عليك فرصة اقتناص الحقيقة).
بيتر بروك (النقطة المتحولة)

إن أهم ما يجعل من النص المسرحي نصاً متحولاً ومتبدلاً ومتلوناً هو اختلاف الرؤى التي تشتغل فيه وعليه, وأهم هذه الرؤى التي تطوّر وتبدّل وتغيّر النص المسرحي وتحوله إلى عرض مسرحي, هي رؤية المخرج المسرحي, الذي يمسك بالنص المسرحي في عملية حوار فني ليستبدله بالنص الخاص به, هو نص العرض المسرحي, وهنا يتعامل المخرج المسرحي مع النص كمادة أولية ضمن عدد من المواد ليشكّل بها ومن خلالها نصه الخاص, وإن اختلفت الأفكار حول وظيفة المخرج وسلطته فإنه من المسلّم به أن أي مخرج يتنازل عن وظيفة (التوظيف) في العرض المسرحي, أي توظيف النص والممثل والسينوغرافيا وغيرها من الأدوات المسرحية, سيفشل بالتأكيد في تقديم النص الخاص أو العرض المسرحي الخاص به.
وهذا (التوظيف) هو ما يعطينا مفهوماً واضحاً حول دور نص العرض المسرحي أو رؤية المخرج في عمليات التبدّل والتحوّل المسرحي التي تشكّل اللغة غير المستقرة للمسرح.
ويلعب المخرج دائماً الدور الأبرز في تكوين هذه اللغة, حيث يصبح للنص المسرحي الواحد أكثر من روح وأكثر من لغة إن تناوله أكثر من مخرج أو إن تناوله مخرج واحد في أكثر من زمن.
3 - روح العرض المسرحي:
حين تُطفأ أنوار الصالة, ويجلس الجمهور أمام الخشبة, فإن كل ما يتحرك ويتفاعل ويُبنى في فضاء العرض من الممثلين بأجسادهم ووجوههم وأرواحهم وأصواتهم والسينوغرافيا بتكويناتها وفضاءاتها وألوانها, الحركة والسكون, اللون والظلال.. الصوت والصمت.. كلها تغدو روحاً واحدة تمثل روح العرض المسرحي, وهذه الروح ليست ثابتة في كل عرض, إنها مثال صادق للروح التي تعتريها الأمزجة والفكر والضجر والسأم, والحماس, كل هذا وارد في العرض المسرحي, لذلك فإن العرض المسرحي هو عرض متبّدل, وغير متوّقع, وتعدّد أدوات العرض المسرحي ودفقها كلها في روح واحدة يجعل من غير الممكن تحديد مزاج روح العرض لهذه الليلة أو تلك, فعليك أولاً أن تجلس أمام الخشبة, لتعرف كيف سيكون عرض الليلة.
هذه الحالة من الترقّب واللا ثبات في كل عرض مشاركة هي الأخرى في جعل دلالة القراءة المسرحية, ذات معطيات متنوعة ومتغيّرة, مميزة المسرح بذلك عن أي عرض أدائي آخر (سينمائي أو تلفزيوني), حيث تتوحد روح العرض فيهما داخل صورة محددة مسبقاً وثابتة, وغير قابلة للتغيير.
4- الارتجال:
الارتجال كفعل مسرحي ناتج أساساً عن الشعور بالحاجة (الدرامية أو غيرها) لقول أو فعل شيء وقت العرض المسرحي, وهو بذلك إن جاء بالصورة الطبيعية والصادقة يعد أرقى حالات التفاعل والتقمّص المسرحي, حسب المفهوم التقمّصي لحقيقة التمثيل الدرامي المسرحي, ولسنا هنا بصدد تبيان ما اختلف عليه المسرحيون من حجم وأنواع الارتجال بقدر ما نحاول أن نوضح كيف يغدو الارتجال ركناً من أركان عملية المغايرة والتبّدل والتحوّل في قراءة العرض المسرحي.
وتكمن أهمية دور الارتجال في مثل هذا التنوّع في القراءة في كونه الأكثر ظهوراً من أدوات (روح العرض المسرحي) والأقرب بالتالي للرصد والتحليل, والقراءة وإعادة القراءة, ويمتاز عن باقي تلك الأدوات في أنه صادر بشكل حسّي وملموس, وليس بالشكل العاطفي والمزاجي الذي قد تبدو عليه باقي أدوات روح العرض المسرحي الأخرى.
إضافة إلى ذلك فإن الإرتجال يمثل أيضاً قراءة مغايرة من قبل الممثل للعرض المسرحي من جهة, ولشخصيته داخل حدود العرض المسرحي من جهة أخرى, فعادة ما يكون نتيجة قراءات متعددة من قبل الممثل/المرتجل للعرض المسرحي, وقراءات أخرى للشخصية التي يؤديها.

ثانياً: آليات القراءة المسرحية:

تكمن كافة أدوات القراءة المسرحية, وهي متعددة وغير محصورة ومتنوعة في يد المتلقي, إذ تختلف قراءة أي متلّقٍ بشكل طبيعي عن الآخر, بل وحتى نوعية القراءة نفسها قد تختلف فثمة قراءات انطباعية, وأخرى تأويلية, وثالثة متخصصة, غير أن آليات التلقّي في المسرح ليست مغايرة لبقية أنواع الفنون الأخرى, كما هو الحال بالنسبة لأدوات العرض المسرحي.
كل هذا يحصر منظومة أدوات القراءة المغايرة للمسرح أو الخلق المتحول لنص العرض المسرحي في ثلاث نقاط رئيسية ليست متاحة لأي عمل أدبي أو فني آخر غير المسرح هي:
1- المكان: فاختلاف الفضاء الجغرافي والحيّز المكاني للعمل المسرحي يمنح أي متلقٍّ أو قارئ أدوات مغايرة للقراءة المسرحية, وقد استغّل المخرجون والسينوغرافيون المسرحيون هذا في توجيه القراءات المسرحية نحو جوانب محددة أرادوها من خلال عروضهم, بينما بقيت جوانب من هذا الفضاء متاحة للقراءة المسرحية بشكل عام وغير محدد من قبل المخرج منها جوانب الهويّة والعرق المتعلّقة بالجانب الجغرافي.
2- الزمان: يلعب الزمان دوراً مهماً في تجديد القراءة المسرحية, سواء عن طريق خلق مخرجين مسرحيين جدد يتناولون المسرحيات السابقة بطرق مختلفة, أو عن طريق خلق أجيال جديدة من المتلقين تتفاعل بشكل مغاير عما سبقها في أساليب التلّقي, أو عن طريق خلق ظروف مختلفة للقراءة.
3- الرؤى: قد تكون الرؤى والأفكار المغايرة, موجودة في النقطتين السابقتين, ولكنها بالتأكيد نقطة مستقلة, لأنها خارجة عنهما ومتمركزة أساساً في أسلوب المشتغلين بالمسرح, أياً كان الزمان, وأياً كان المكان.

هناك تعليق واحد:

موسى البلوشي يقول...

راقني المقال كثيرا ..
احسنت
أدعوك لزيارة مدونتي:
moosa84.blogspot.com
موسى البلوشي
مدوّن وكاتب مسرحي