لليل أكثر من مشية، حين أسمع خطواته خلفي وأنا كاللامكترث أخطو بثباتٍ مصطنع أمامه، أعرف أنه أصيب مرة في إحدى قدميه الثقيلتين، لذا فهو كلما جرّ قدمه المصابة ضرب بالأخرى الأرض بقوة، وارتعدت خطواتي الثابتة واهتز ظلي الباهت وخلت أنه سيقع. بعد زمن من ملاحقة لا يعرف أينا جدواها وأسبابها، يبدأ في مشية أخرى، فأشعر كأنه يقفز بكلتا قدميه وأجدّ أنا بالمقابل في السير محاولاً بين لحظة والثانية النظر من زاوية عيني علّي أتلمس خياله، أو أرى حركته القادمة، حين يفعل ذلك، يغلب عليّ وجع ظهري، أدرك أنه الخوف والتعب وضغط الفقرات، التنمل في رجلي يزداد، ولا يوقفني ذلك عن الهمّ في مشيتي. مشيته الثالثة تخيفني أكثر، رغم أنها كذلك تمنحني فرصة لأرتاح، يبدأ في سحب قدميه، فيصدر صوتاً يكاد سامعه يحسبه أنيناً، كأن تحت قدميه بشراً يتوجعون، كأن صراخاً مجهولاً وحزيناً ينسحق وهو يجرّ بنعله المتهرئ قدمين ثقيلتين قويتين، ساعتها أرغب في البكاء معهم، أولئك الباكين من أثر خطواته، ويخيفني أكثر تلك الرغبة الغامضة في التوقف عن الهرب، والالتفات نحوه في يأس، ثم وضع رأسي في التراب، لتطأه قدماه العظيمتان.
حين ينال مني ومنه التعب والسأم والغضب والحزن، يبدأ في مشيته الأخيرة، فلا أسمع لخطواته صوت، أعرف أنه لا يطير، لكني لا أعرف كيف يمشي هكذا دون صوت! وأيضاً أكون متأكداً من أنه ما يزال ورائي، يمشي وإياي الخطوة على الخطوة، هكذا مثل ملاك حارس، مثل موت ينتظر اللحظة، مثل عاشق يأخذه الكبرياء، ومثل كل ليلة، نسقط أنا وهو بغتة في بئر النوم، دون أن يعرف أحدنا لماذا، دون أن يسأل أحدنا عن السر، ودون أن يرى أحدنا، وجه الآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق